إذا ألقينا نظرة سريعة على الأدب العربي، وباستثناء الكتب التي تخاطب الأطفال والمراهقين، وكتبت بأساليب غاية في البساطة، وتلك التي كتبت للبالغين عن الجاسوسية مثل ما كتبه المصري صالح مرسي، لن نجد رواية بوليسية كاملة. ربما بعض اللمحات هنا وهناك، وأجزاء قليلة من الغموض الذي يصنف بوليسيا، ولا شيء آخر، لا يوجد محقق سري يطلع بحل لغز معقد، ولا لص ظريف، يسرق من أغنياء الشعوب لصالح فقرائهم، ولا مغامرة كبرى، تمثل مطاردة، يرصدها نص في الشوارع. في رأيي الشخصي وحين أتحدث عن خلو الأدب العربي من هذه الكتابات، رغم قدمها في الغرب، أجد أن الأمر منطقي جدا ولا يدعو للغرابة، باعتبار أن اختلاف المجتمعات في بنائها وحركة شعوبها وعاداتهم وتراثهم بالضرورة يؤثر على الأدب كثيرا، ولطالما وصف الأدب بأنه مرآة للشعوب، يعكسها بألوانها التي عليها. نحن في بلادنا، مثل كل شعوب الأرض، نمتلك خامات ربما يصلح بعضها لكتابة الرواية البوليسية، لكننا لا نملك أدوات كتابتها، نملك شيئا من الجريمة واللصوصية، والبحث والتحري، لكننا لا نملك الخيوط التي تحول ذلك إلى رواية، ولطالما حدثت عندنا جرائم شبيهة بالتي تحدث في الغرب، وتوحي بكتابتها، لكن تقنيات الكتابة لا تلائم مجتمعنا أبدا، ولو كتبت لربما لن تجد قارئا يصدقها، وبالتالي لن تكتب. أيضا مسألة الغطرسة الكتابية التي تنتشر لدى الكتاب العرب، من ناحية تنميق اللغة، واختراع التراكيب الغريبة في اللغة العربية، فالأدب البوليسي في معظمه، إن لم يكن كله، أدب تسلية ليس إلا، نوع من الكتابة يحمله القارئ إلى مخدعه ليتسلى قليلا قبل النوم، ولا يحب الكاتب العربي أن يشقى في رواية، تتحول إلى مادة ترفيه في النهاية. ما نكتبه يحمل أفكارا تلائم مجتمعنا، وهي أفكار في الغالب تؤدي في النهاية إلى نص بعيد تماما عن التسلية، ويحتاج في قراءته إلى مجهود شبيه بالذي بذله الكاتب نفسه. " خلاصة الأمر أستطيع أن أقول إنه توجد جريمة منظمة في الواقع، وما على الكاتب إلا أن ينقلها إلى الورق، ليصنع كتابا ومن ثم يصنع قارئا هو في الأصل موجود في كل تلك الأحداث، لكنه مع ذلك لا يستطيع مقاومة قراءتها كتابا " آتي إلى مسألة المخيلة البوليسية التي يمتلكها الكاتب الغربي، الذي نشأ في مجتمع مكتنز بالأدوات الفاعلة، أو التي تنشط تلك المخيلة، هو يرى الجرائم المعقدة التي ترتكب، يشاهد المتحرين وهم ينشطون من حوله، وربما يتغلغل في علب الليل وعوالم الجريمة المتعددة، الموجودة بكثرة من أجل أن ينشط خياله ويكتب. توجد عصابات المافيا المحفزة للكتابة عنها، عصابات الخطف والمخدرات والرقيق الأبيض، توجد عناصر الخلل كلها التي تأتي بأدوات الكتابة من دون أي عناء، وفي هذا العصر، عصر التكنولوجيا الحديثة، يمكن استخدام ما يخطر وما لا يخطر على البال من أجل كتابة رواية. وخلاصة الأمر أستطيع أن أقول إنه توجد جريمة منظمة في الواقع، وما على الكاتب إلا أن ينقلها إلى الورق، ليصنع كتابا ومن ثم يصنع قارئا هو في الأصل موجود في كل تلك الأحداث، لكنه مع ذلك لا يستطيع مقاومة قراءتها كتابا. من أنواع الرواية البوليسية الرائجة أيضا، تلك التي تكتب في السجون أو عن السجون، تلك التي تتابع متهما بريئا، أدين في جريمة لم يرتكبها، وتذهب به إلى حبل المشنقة، أو تبعده عن الحبل في آخر لحظة. هذا النوع يبدو شديد الجاذبية بدليل وجود روايات عديدة تناولته، وأعلل ذلك بمسحة التعاطف التي يبديها القارئ مع الشخص المدان، خاصة إذا اشتم رائحة براءته قبل أن ينهي النص.. وأذكر رواية استيفن كنج المسماة "الميل الأخضر"، تلك التي تتحدث عن رجل من السود، يملك قوى خارقة في شفاء الآخرين، وأدين بقتل طفلتين، وذهب إلى الميل الأخضر، وهو الطريق المؤدي للمقصلة، وقد كسب ذلك المدان تعاطف سجانيه قبل أن يكسب تعاطف القراء كلهم، وأيضا تعاطف المشاهدين في الفيلم الذي أنتج عن تلك الرواية، ولا أستطيع أن أقول إن رواية استيفن هذه رواية تسلية فقط، فقد صيغت ببراعة، وجسدت ألما إنسانيا عميقا يحسه القارئ طوال قراءته لها. وأقول إن مثل هذا البطل قد يوجد في مجتمعنا بنفس المواصفات، لكن لا أدوات تكتبه، لأن الأدوات التي أدانته عندنا في غاية البساطة، والسجن الذي دخله لا يشبه سجنه الأميركي، وأيضا المخيلة التي ستكتبه ليست معدة لكتابته على الإطلاق. أخلص إلى أن جنس الرواية البوليسية لن يكون من بين أجناس الكتابة العربية الشائعة في أي يوم من الأيام، وأي محاولة لكتابة رواية بوليسية بتلك الأدوات الفقيرة، والمخيلة غير المعدة جيدا، ستكون ضربا من المغامرة التي تبعد القارئ عن القراءة العربية، أكثر من ما تقربه إليها.