في الزمن الصعب الممتقع، يكون من المناسب استحضار سيد السهل الممتنع، نزار قباني الذي تحل هذه الأيام ذكرى غيابه. سبعة عشر عامًا مضت كأنها رمشة عين، على فداحة ما جرى فيها. ولأنه الشاعر الذي كان يغمس ريشته في قنينة عطر، فقد تلطفت به السماء وتعطفت عليه بالإغفاءة البيضاء قبل أن يرى الرصاص يروع حمائم الشام، والدخان يلوث سماء بغداد، والغزل يصبح من المفسدات أو من الكماليات. كنت طفلة حين انتشر الخبر أن نزار قباني في بغداد. جاء يخطب بلقيس الراوي، إحدى نخلات الأعظمية. لكن أهلها يمانعون. واستنفرت الصحافة محرريها ومصوريها بحثًا عنه في الفنادق المعروفة دون أن يبدو له أثر. ثم استيقظنا، ذات صباح، على لغط في الشارع وعرفنا أن الشاعر شوهد في حيّنا، عند مفرق المسبح، قرب ما يعرف اليوم بساحة عقبة بن نافع. وأكد شاهد عيان أنه رأى الشاعر في الفندق العائلي الصغير الذي تديره أم مريم، وهي سيدة آشورية تؤجر غرف منزلها لزبائن مختارين أغلبهم من الخبراء الروس الذين كانوا يملأون بغداد، أيام عبد الكريم قاسم. من دون ترتيب، تجمعت شابات الحي وانطلقن نحو الفندق في ما يشبه المسيرة أو التظاهرة. وجريت وراءهن بدافع الفضول، وداهمنا المكان باعتبار أننا صديقات مريم. كان الشاعر الأنيق يتناول الفطور في الطابق الأرضي. ورغم المفاجأة، بدا مسرورًا ولطيفًا في الترحيب والمجاملة، يرد على أسئلة البنات العفوية والساذجة ويوقع لهن على دفاترهن بكل أناة. وحين سألته إحداهن إن كان الحب ضروريًا لكتابة الشعر، أجاب وهو يبتسم: نعم. وتشجعت فتاة ثانية وحاولت أن تعرف إن كان يعيش حالة حب. واتسعت ابتسامته وقال: لا. وهنا انبرت شابة متهورة وسألت بتحد: وبلقيس الراوي؟ ترك فنجان القهوة وغادر غرفة الطعام ولم يعلق بكلمة. وعرفنا، فيما بعد، أنه تزوج حبيبته العراقية وأخذها معه إلى بيروت. وهناك فقدها في حادث تفجير السفارة العراقية. وكانت بلقيس، قبل رحيلها، قد استودعته قرنفلة بيضاء وبخورًا أشقر: زينب وعمر. وتصادف أن شاهدته في مسبح «اللونغ بيتش»، قبل حرب لبنان، يرتدي ثياب السباحة ويلاعب طفلته زينب في البركة المخصصة للصغار. أب كهل مترهل بلا هالة ولا هيلمان، مبلول الشعر، منزوع الأناقة، يمر به السابحون فلا يخطر ببالهم أنه الشاعر الذي يرسم بالكلمات فتحتشد عواصم العرب لسماعه. يضرب المعجبون حوله حصارًا حيثما سار وتحرك ووقف على المنابر. كأنه زعيم من الزعماء. غير أن المتهافتين على الزعيم يتهافتون تملقًا أو خوفًا، والمحيطين بنزار يحاصرونه حبًا. وفي أسبوع ثقافي عربي في لندن، أواسط الثمانينات، جلس الشاعر ليوقع دواوينه وقد اصطفت أمامه وحوله طوابير المعجبات. وكان هناك شاب صغير أشقر يقف على جنب، ينتظر وينظر في ساعته ويضجر. إنه عمر، ابن بلقيس، الطفل الذي كان قد فقد والدته وهو في العاشرة فربته هدباء، أخته غير الشقيقة، التي يسميها «هدّوب». كيف حالك يا عمر؟ رد أنه بخير. هل تقرأ أشعار أبيك؟ قال إن أباه يطلعه على قصائده بحجة: «اذهب يا عمر واعمل فوتوكوبي لهذه القصيدة». ورغم أن الشاعر لا يحتمل أن يلمس أحد مخطوطة قصيدة جديدة له، فإنه كان يفرح حين يرى ولده يعتني بأوراقه ويصورها ويرتبها ويلملم الأسطر المبعثرة. هل تشعر بالغيرة من كل هؤلاء المعجبات المتزاحمات على بابا؟ ضحك المراهق الوسيم وقال إن أباه هو الذي يغار منه لأن له رفيقاته الحلوات، في مدرسته السويسرية، لا يعرفن من هو نزار قباني.