من المقاومة الشعبية التي تتطور في اليمن وتستنزف الحوثيين وحليفهم المخلوع، إلى مأزق في العراق يفرض مسارا جديدا في التعاطي مع المعركة، وصولا إلى تطورات ميدانية كبيرة في سوريا، وحتى الهجوم السياسي والإعلامي النوعي على حزب الله في لبنان وسقوط حصانته.. كل ذلك يرتبط بخيط واضح عنوانه: صحوة عربية تركية في مواجهة تغول إيراني تجاوز كل الحسابات والتوقعات. من الصعب القول إن هذا التزامن بين كل هذه التطورات يأتي عبثا، فما يجري في سوريا وهذا التقدم اللافت منذ تحرير مدينة إدلب، وصولا إلى انتصار جسر الشغور وإفشال هجوم سليماني في الجنوب، لا يمكن أن يكون بلا دلالة، رغم أن جزءا كبيرا منه نتاج جهد الثوار وجهادهم، إذ لا شك في أن هناك بعض الدعم الجيد الذي تلقاه الثوار كي يحققوا تلك الإنجازات، فضلا عن دعم تشكيل "جيش الفتح" الذي حرر إدلب وجسر الشغور. ومن سمع بشار في آخر مقابلاته يتهم تركيا بأنها وراء "سقوط" إدلب (سيقول ذلك عن جسر الشغور أيضا)، سيدرك هذا البعد الذين نحن بصدده من دون شك. " تنامي التنسيق بين تركيا والسعودية وقطر في الساحة السورية -وهو ما كشفته الكثير من المصادر السياسية والإعلامية- ليس بالبعد الهين، والسبب أن التناقض بين الدول الثلاث كان يترك آثارا سلبية على مسار المعارك، بل حتى التحرك السياسي في عموم الملف السوري " إن تنامي التنسيق بين تركيا والسعودية وقطر في الساحة السورية -وهو ما كشفته الكثير من المصادر السياسية والإعلامية- ليس بالبعد الهين، والسبب أن التناقض بين الدول الثلاث كان يترك آثارا سلبية على مسار المعارك، بل حتى التحرك السياسي في عموم الملف السوري. ليس هذا تقريرا عسكريا ميدانيا حتى نعرض فيه الإنجازات التي تحققت خلال الأسابيع الأخيرة، لكن لا يمكن لأي متابع للأخبارأن يشك في حقيقتها، بل إن وسائل إعلام التحالف الإيراني نفسه لا تتمكن من إخفائها، في حين تبحث بين طيات الأخبار عن تقدم هنا أو هناك تخفي من خلاله خيبتها. وحين يتساقط جنود النظام السوري والمليشيات التابعة له، والمستجلبة من الخارج، ويظهر بعضهم في أشرطة فيديو، يغدو من الصعوبة بمكان تجاهل الأمر كأنه لم يكن، وبالطبع لما ينطوي عليه من فضائح سياسية. وقد بات واضحا أن كل المقاتلين الذين يتم جلبهم من كل أصقاع الأرض لم يعودوا قادرين على تحقيق الكثير في مواجهة إرادة الثوار، بما في ذلك الدور الكبير الذي يلعبه حزب الله، والذي وعد أمينه العام بحسم في القلمون قبل حوالي عام، ولم يحدث شيء من ذلك إلى الآن، بل ربما كان التقدم من نصيب الثوار. في اليمن، لا نحتاج إلى كثير شرح، فالمقاومة الشعبية هناك تتطور بالتدريج، وتنتقل من وضع الفوضى إلى وضع التنظيم، بصرف النظر عن مآل العمليات الجوية التي لم تتوقف عمليا، وكل ذلك يشير إلى أن استنزاف الحوثيين سيتصاعد بمرور الوقت، خاصة في الجنوب الذي لا يحصلون فيه على أي حاضنة شعبية، لا هم ولا المخلوع. وجاء الموقف الجديد للمخلوع (اعترافه بقرار مجلس الأمن ومطالبته الحوثي بالاعتراف به) كي يشير إلى يأسه من إمكانية الانتصار، لا سيما بعد أن تركه عدد من قادة حزبه وذهبوا إلى السعودية لتقديم الولاء، دون أن يعني ذلك يأسه من إمكانية عقد صفقة مع الخليجيين تتضمن بيع الحوثيين دون شك. العراق ليس بعيدا عن هذه التطورات، لكن العدو هنا هو تنظيم الدولة الذي تُجمع كل الأطراف على عدائه، ومع ذلك فهو يحرز إنجازات كبيرة رغم خسارته تكريت، مقابل فشل ذريع لما يسمى مليشيات الحشد الشعبي. وعنوان التراجع هنا يتمثل في مبادرة حيدر العبادي إلى تفضيل الدعم الأميركي على المليشيات، خاصة بعدما أعلنت واشنطن أنها لن تتدخل في معركة الأنبار إذا شاركت تلك المليشيات في المعركة، وهو في تكريت اختار الدعم الأميركي على المليشيات، وإن كانت حاضرة على نحو ما، لكن فشلها اضطره للاختيار، فكان الحسم. " ما يجري يعني أن مأزق الاستنزاف الإيراني أخذ يتصاعد، ومن يستمع للخطاب الإيراني وخطاب نصر الله يدرك طبيعة الأزمة التي يتخبط فيها القوم، لكن ذلك كله لا يدفعنا إلى القول إنهم يقتربون من تجرع كأس السم، لأن الرحلة وصولا إلى ذلك لن تكون قصيرة على الأرجح " وحين يذهب العبادي حدّ القول إنه لا توجد مليشيات في العراق، فكأنما يغطي الشمس بغربال، إذ إنه يبحث عن نافذة دعم تخلصه من المأزق، في ذات الوقت الذي يبحث فيه عن فرصة للموازنة بين النفوذ الإيراني الهائل وبين سلطته، وبالطبع كي لا يكرر تجربة المالكي، وعلى أمل أن يجد إسنادا من الوضع العربي المحيط. وحين تقرأ في وسائل الإعلام الإيرانية ملامح غضب على العبادي، وإن يكن محدودا، فهذا يعكس شعور قادة إيران بأنه يحاول التقليل من سطوتهم، وأن المليشيات التي أرادوها سيفا مسلطا على رأسه ستضعف على نحو ما، مع أننا لا نعول عليه الكثير، فهو أسير وضعه الطائفي، ومعه الاختراقات الإيرانية التي لا تتيح مجالا كبيرا للمناورة، لكننا نشير فقط إلى وضع ليس بعيدا عن تراجع السطوة الإيرانية، وتصاعد مأزقها كما في سوريا واليمن. وحين يغيب صوت قاسم سليماني بعد شهور من الزفة التي تمتع بها حتى صار أيقونة تكاد تداني الحسين رضي الله عنه (لا صلة للحسين بمعارك تدعم الطغاة).. حين يحدث ذلك، فهذا يعكس حجم المأزق الإيراني، خاصة في ظل شعور المحافظين بأن عليهم تمرير اتفاق النووي رغم ما ينطوي عليه من دفعة كبيرة لخصومهم من التيار الإصلاحي. كل ذلك يعني أن مأزق الاستنزاف الإيرانيأخذ يتصاعد، ومن يستمع للخطاب الإيراني وخطاب نصر الله يدرك طبيعة الأزمة التي يتخبط فيها القوم، لكن ذلك كله لا يدفعنا إلى القول إنهم يقتربون من تجرع كأس السم، لأن الرحلة وصولا إلى ذلك لن تكون قصيرة على الأرجح، مع الأسف وكأس السم هنا هو صفقة مع المحيط العربي والتركي تضع كلا في وضعه الطبيعي وليس شيئا آخر، إذ لن يلغي أحد الآخر، وقدر هذه المنطقة أن تتعايش على صعيد الدول، وعلى صعيد الأعراق والطوائف أيضا.