أخفق رئيس الحكومة اليونانية ألكسيس تسيبراس في إخفاء توتره وهو يدلي بتصريح لوكالة «رويترز»، قال فيه: «أوروبا لن تختار في تعاملها مع المشكلة اليونانية، السير في طريق فرض الضغوط الاقتصادية الوضيعة والمجردة من الأخلاق، وستفضل خيار التفاهم المشترك والاحترام المتبادل وتدعيم الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي لبلادنا». كلمات زعيم حزب اليسار المتطرف «سيريزا» المتعطش للتفاهم مع المفوضية الأوروبية، لا تبدو واقعية على خلفية مواقف ألمانيا المتشددة لجهة التزام أثينا تنفيذ ما تعهدت به من التزامات في الاتفاق مع الترويكا (البنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي). العد التنازلي يتسارع ولم يتبقَّ سوى أسابيع معدودة أمام تسبيراس لاتخاذ قراره الحاسم الذي سيغير وجه بلاده بالكامل، فذلك الذي يترقبه وزير المال الألماني شويبله ينبغي أن تتضح ملامحه خلال الشهور الثلاثة المقبلة: حزيران (يونيو) وتموز (يوليو) وآب (يوليو) إذ سيتحتم على حكومة أثنيا دفع مبلغ مقداره 11.4 بليون يورو إلى الدول والهيئات المالية الدائنة، وذلك وفقاً لتقرير هيئة خدمة الديون الحكومية في اليونان. كرس حزب سيريزا حملته الإعلامية في الانتخابات العامة في كانون الثاني (يناير) الماضي لإقناع اليونانيين بأن فوزه في الحكم هو الطريق الوحيد لانتشالهم من آلامهم التقشفية، لأنه ببساطة سيمزق اتفاق خطة الإنقاذ الاقتصادية، وسيطرد أطرافها الثلاثة من البلاد وسيلغي حزمة الإصلاحات المطلوبة وتخفيضات الموازنة التي نص عليها الاتفاق، وليس أخيراً العمل الحثيث لشطب الديون الخارجية. وطروحات سيريزا وأفكارة كانت واضحة ومباشرة ومعلنة للرأي العام الداخلي والخارجي، وتتركز في: التهديد بإعلان إفلاس الدولة، واستفزاز أزمة شاملة في كل منطقة اليورو، وإرغام الاتحاد الأوروبي على تقديم التنازلات. رسم سيريزا خطته هذه مستنداً إلى معطيات ونتائج الأحداث والتطورات التي عاشتها أوروبا في الفترة بين 2010 و2012، عندما طرحت الأزمات المالية والاقتصادية في اليونان ودول أوروبية أخرى، تساؤلات مشروعة عن مستقبل العملة الأوروبية الموحدة وإمكان انهيار منطقة اليورو، معتقداً، عن خطأ قاتل، أن موقفه سيكون قوياً في أيّة مفاوضات يجريها مع المقرضين إلى حد ابتزاز المفوضية الأوروبية، كما كان واثقاً بأنه سيجد مجموعة كبيرة من الحلفاء في صفوف الدول الأعضاء. ولم يعد سراً أن يانيس فاروفاكيس الذي أصبح وزيراً للمال في حكومة تسيبراس، هو مهندس ومنظر هذه الفكرة ومنفذها. ويعد فاروفاكيس واحداً من الاقتصاديين البارزين في اليونان، وهو مؤلف كتاب (The Global Minotaur)، وساهم في صوغ نظرية اللعبة (game theory)، ويشغل أيضاً منصب المستشار الاقتصادي في شركة (Valve Corporation) الأميركية المختصة بتطوير ألعاب الفيديو والتوزيع الرقمي. ويصفه المحللون الاقتصاديون بأنه مزيج من جون ماينارد كينز الاقتصادي البريطاني الذي أثرت أفكاره في ممارسة الاقتصاد الحديث، وكارل ماركس الفيلسوف والاقتصادي الألماني الشهير. رهانات تسيبراس القاتلة رهن سيريزا مستقبله كحزب سياسي لوهم انتصار اللحظة الراهنة متخيلاً قدرته على استنساخ الأزمة التي عصفت قبل أربع سنوات، والتي أرغمت الاتحاد الأوروبي على نجدة اليونان مخافة انهيار منطقة اليورو، وتحويلها إلى مفصل ضغط جديد ينتج منه شطب كل الديون، لكن حساباته كانت خاطئة، فالتطورات اتخذت منحى مغايراً لما توقعه الحزب وفاروفاكيس، إذ لم يعثرا على حلفاء في البلدان التي كانا يرجحان أن تعتمد السيناريو ذاته، وهي دول جنوب أوروبا مثل إيطاليا والبرتغال وقبرص وإسبانيا وفرنسا. ما حدث هو العكس تماماً، حيث تفاجأ صاحب (نظرية اللعبة) بردود فعل غاضبة على تصريحه بأن إيطاليا تقف على حافة الانهيار المالي، وذلك من وزراء مالية إيطاليا والبرتغال وإسبانيا الذين نفوا في شكل قاطع وجود أزمات مالية في بلدانهم، وأكدوا أن ليس لديهم أي نية لإعفاء اليونان من تسديد ديونها، لا سيما أنها أيضاً اضطرت للاستدانة والقيام بإصلاحات كبيرة وتخفيضات قاسية. حتى قبرض التي تجاوزت بصعوبة ومشقة أزمتها المالية، نفت هي الأخرى وفي شكل قاطع أنها تزمع السير على طريق اليونان وتخاطر بعضويتها في منطقة اليورو. وجهت حكومات دول أوروبا الشمالية والشرقية سهام انتقاداتها اللاذعة لليونان، ونبهتها إلى أنها خاضت معارك سياسية مع الأحزاب المعارضة في البرلمان من أجل انتزاع وتمرير برنامج الإنقاذ الأوروبي، وعليها أن تعي أنه من المستحيل حتى التفكير بإمكان شطب ديونها، وجاءت المفاجأة اللاحقة من الأسواق المالية التي لم تحرك ساكناً على تصريحات فاروفاكيس، وعلى وصول سيريزا إلى السلطة، إذ واصل اليورو ثباته لأكثر من شهر ولم يشهد أية تراجعات دراماتيكية، ولم تلاحظ اية معطيات أو تطورات من شأنها أن تؤشر إلى انهيار منطقة اليورو، فأسعار الفائدة واصلت مستوياتها المنخفضة، بل وحتى انخفضت في شكل إضافي في دول منطقة اليورو ما عدا اليونان بالطبع. وفي الواقع تمكنت منطقة اليورو خلال السنوات الأخيرة من تأسيس هيئات ووضع قواعد جديدة تقيها الوقوع في حال اللاستقرار وهي: آلية الاستقرار المالي التي يبلغ رأسمالها 700 بليون يورو، الاتحاد المصرفي الأوروبي، منظومة الرقابة المالية، صندوق اعادة الهيكلة المصرفية ، كما واتباع البنك المصرفي الاوروبي سياسة مالية فعالة، ما وفر لها سبل وإمكانات تقلص وإلى حد كبير العجز في موازنات دولها الأعضاء، إضافة إلى نجاحها في تخفيض، وللمرة الأولى، ديونها الخارجية خلال الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2014، وكذلك رفع المنظومة المصرفية رأسمالها وهي الآن أكثر ترسخاً وثباتاً واستقراراً. هذه المعطيات توحي، وحتى تؤكد، واقع أن منطقة اليورو كانت استعدت لمواجهة مثل هذه التحديات والمفاجآت، وبدلاً من أن يزعزع سيريزا استقرارها، قوض وضع بلاده وكيانها المالي والاقتصادي – الاجتماعي، إذ بعد أن أصبح واضحاً، أن البلاد تتجه إلى انتخابات مبكرة سيفوز بها لا محالة سيريزا، بدأت موجات متسارعة لسحب الودائع المالية من المصارف تحسباً لوصول الدولة إلى مرحلة إعلان الإفلاس وطردها من منطقة اليورو. وبلغ حجم المبالغ المسحوبة للفترة من كانون الأول (ديسمبر) حتى آذار (مارس) فقط، أكثر من 27 بليون يورو، ومع ذلك بقيت المنظومة المصرفية اليونانية ثابتة بفضل الدعم المالي العاجل الذي قدمه البنك الأوروبي. وفي هذا الوقت، تدهور وضع الموازنة العامة في شكل كبير بسبب إحجام مئات آلاف اليونانيين عن دفع الضرائب. ووجدت اليونان نفسها تفقد الوجود في الأسواق المالية، ما أدى إلى ارتفاع معدلات الفائدة المصرفية إلى مستويات قياسية جديرة بكتاب غينيس. بهذا، خلق سيريزا معضلات كبيرة تضاف إلى تلك التي تهز أركان المجتمع والدولة التي سقطت فعلياً في أزمة مالية جديدة. أوهام تسيبراس البوتينية ما إن هبطت طائرته بعد زيارته موسكو، وجد تسيبراس نفسه مجدداً مع حقائق الواقع، فالزعيم الروسي بوتين لم يحقق حلمه بإغداق بلايين الدولارات على بلاده لإغاظة خصومه الغربيين، ودفع الحرج الزعيم اليساري إلى ادعاء أنه لم يطلب من الكرملين مساعدات مالية، ونقلت عنه جريدة «كاتيميريني» قوله: «اليونان ليست الشحاذ الذي يمد يديه إلى دول كثيرة لحل مشكلاته المالية». إلا أن الحقيقة هي غير ذلك ووردت على لسان وزير المال الروسي أنطون سيولانوف بقوله: «موسكو تمنح القروض فقط بعملتها الوطنية (الروبل) وبمبالغ لا تتعدى ملايين عدة». وكشف موقع (GRReporjer.info) «أن الروس رفضوا طلب تسيبراس استثناء المنتجات والسلع الغذائية والزراعية اليونانية من الحظر المفروض على الدول الأوروبية». وقال البروفيسور في جامعة أثينا ديميتيريس سوتيربولوس لوكالة «بلومبيرغ» الأميركية أن «زيارة تسيبراس موسكو، وما صاحبها من صخب إعلامي لم تكن سوى جعجعة بلا طحين، وعليه الآن أن يفعل شيئاً بسرعة وقبل فوات الأوان»، وأضاف: «المفاوضات الجارية مع الترويكا الآن غير متوازنة، فاليونان لديها مقترحات حول بعض المسائل وليس كلها، فهي تائهة في دوائر لا نهاية لها في ما يخص قضايا أخرى ملحة للغاية». يعي تسيبراس جيداً أن لا طريق لخلاص حزبه وحكومته من الأزمة التي تلتهمهما الآن إلا بتسليم الترويكا ما تريده وهو خطة إنقاذ احتياطية تتضمن برنامجاً مقنعاً للإصلاحات وإجراءات محددة وكافية للتقشف الحكومي تتيح له الحصول على قرض بمبلغ 7,2 بليون يورو. الآن وبعد أن دفعت أثينا مبلغاً مقداره 460 مليون يورو من مستحقاتها لصندوق النقد الدولي تشرف احتياطاتها النقدية على الجفاف، ولن يكون بوسعها الوفاء بأقساط ديون أخرى ستستحق بعد أسابيع إن لم تتوصل إلى الاتفاق المطلوب، وسيتحتم عليها في الوقت نفسه العثور على أموال إضافية بقيمة 1,5 بليون يورو شهرياً لدفع رواتب الموظفين والمتقاعدين. وبرأي رئيس المفوضية الأوروبية جان – كلود يونكر في تصريح نقلته (رويترز) فإن اليونان يجب أن تبذل جهوداً أكبر لإبرام صفقة مع الدائنين، ونبه إلى «أن المفاوضات لم تحقق أي تقدم من شأنه أن يؤدي إلى تسوية سريعة». وقال: «ما زلنا بعيدين جداً من أي دفق يقربنا من نتائج فعلية». فاروفاكيس الغائب الحاضر ويلوم الخبراء الاقتصاديون سيريزا على سياساته العشوائية وطوباويته الأيديولوجية، ويرون أنه وقع ضحية «نظرية اللعبة» التي ألقت بالوزير فاروفاكيس في متاهة السير بالاتجاه المعاكس لمنطق التحليل الاقتصادي الذي قاده إلى الاستنجاد بروسيا بوتين التي تعيش أحلك أيامها مع العقوبات الأوروبية – الأميركية، وتدهور أسعار النفط في الأسواق العالمية. أثينا اليوم أكثر اعتماداً على المساعدات الخارجية، ولكي تنجو من الفوضى المالية، تحتاج إلى البنك المركزي الأوروبي لتمويل نفقات الموازنة ومنع الإفلاس، لهذا لا نرى سيريزا الآن يهدد بـ «تمزيق» خطة الإنقاذ الأوروبية، ويطالب على العكس في تعارض مع شعاراته الانتخابية، بتمديدها. وأثينا الآن أمام خيار واحد هو إما البقاء في منطقة اليورو، واستخدام الفوائد المنخفضة والتمويلات غير المحدودة، وجدولة الديون، وإما الخروج والاصطدام بحقائق القروض ذات الفوائد العالية، وانعدام التمويلات، والإفلاس، الفوضى والتضخم النقدي. تسيبراس وحكومته وحزبه يدركون جيداً أنه من دون تمويل سيكونون عاجزين عن مواجهة استحقاقات الدولة والمجتمع، وهذا كان واضحاً للجميع بمن فيهم الشركاء الآخرون الشعبويون في السلطة منذ الأسابيع الأولى، بالتالي لا دفعات مالية من دون تطبيق الإصلاحات المنصوص عليها في اتفاق خطة الإنقاذ، لهذا وكما يؤكد ويرصد محللون أن سيريزا منذ تسلمه الحكم سارع إلى العمل ببنود اتفاق الترويكا بإصدار حكومته قرارات تقضي بتخفيض النفقات الحكومية بمستويات أكبر من تلك التي حددتها برامج الإنقاذ، كما قام بتقليض موازنة مؤسسة التأمينات الصحية، وهي التي كان يعتبرها أحد الخطوط الحمر في برنامجه الانتخابي، وليس هذا فقط، بل استبدل مصطلحات مثل «حظر» و «الترويكا» و «برنامج الإنقاذ» بعبارات «التزامات» و «المؤسسات الثلاث» و «الاتفاق المالي»، هذا فيما فضل وزير المالية فاروفالكيس بعد ارتكابه سلسلة الهفوات والفضائح الإعلامية الاختفاء عن الأنظار والابتعاد عن وسائل الإعلام المحلية والأجنبية، وانتشرت إشاعات روجت لها بعض الصحف المحلية عن قرب إعفائه من منصبه. هذا يعني عملياً أن سيريزا تخلى عن وعوده الانتخابية بتمزيق اتفاق الإنقاذ وشطب الديون وطرد الترويكا ورفض تخفيض النفقات الحكومية والإصلاحات الهيكيلية وتمرير قانوني التقاعد المبكر والاستثناءات الضريبية، ويبدو ذلك كله بوضوح في محتوى الخطة التي أعدتها الحكومة اليونانية وتعهدت فيها توفير مبلغ مقداره 1,5 بليون يورو من بيع وخصخصة مؤسسات حكومية خلال العام الحالي، وتحقيق زيادة بمبلغ مقداره 3 بلايين يورو في الموازنة العامة من جباية الضرائب والنشاطات الاقتصادية. والسؤال الذي يتردد الآن في أوساط الفئات الاجتماعية التي صدقت شعاراته ووعوده هو: هل من المعقول أن ينحرف حزب شعبوي عن أيديولوجيته، ويغير جلده ويتنكر لتعهداته أمام المجتمع بعد فوزه بالحكم؟ وهل من الممكن أن يتغير إلى الدرجة التي سيتجرأ ويقوم بتطبيق الإصلاحات التي يعتبرها الاتحاد الأوروبي شرطاً أساسياً لمواصلة تقديم الدعم والمساعدة المالية؟ هذا ما سنعرفه خلال الشهور القليلة المقبلة. وإلى أن يحين هذا الوقت، ستتواصل الدراما اليونانية. وتوقع ديبلوماسي يوناني في حديث مع كاتب هذه السطور، سقوط حكومة سيريزا وذهاب البلاد في غضون الأشهر القليلة المقبلة.