لا وجود لأحمد العلي في الفيسبوك أو تويتر. الشاعر والمترجم السعودي الشاب أغلق صفحاته الإلكترونية ليتفرغ للتأليف والترجمة من نيويورك؛ المدينة الكونية التي دخلها طالب دراساتٍ عليا في تخصص النشر، انخرط في عوالمها الثقافية الساحرة، حد التوحد. اليوم أحمد العلي المولود عام 1986 في الظهران، يعمل في أكبر دار نشر للكتب في العالم Penguin Random House. ليس هذا وحسب، بل أصدر سلسلة كتب وترجمات قيمة، شاركت بتعريف المشهد الثقافي بمستجدات المنتج الأدبي الحديث في نيويورك. كان آخرها، كتاب (صندوق الموسيقى) لنعوم شهاب ناي و(أصوات الطبول البعيدة: مختارات من الأدب الصوفي العالمي)، كما ينشر أسبوعياً حلقات ترجمته لرواية (حليب أسود) لإليف شافاق صاحبة رواية (قواعد العشق الأربعون). ويوشك أن يصدر كتابين، الأول هو (اختراع العزلة، مذكرات الروائي الأمريكي بول أوستر عن وفاة الأب والكتابة والعزلة) والآخر (حليب أسود: مذكرات الروائية التركية أليف شافاق عن الأمومة والكتابة والهموم النسوية). جمعه لمقالات عمه المفكر والشاعر الرائد محمد العلي، جهدٌ لا ينسى. جهدٌ تطلب منه البحث في مستودعات أرشيف الصحافة بين الغبار والأوراق الصفر لأشهر طويلة، تنقيباً عن كل ما كتبه العلي (العم). في تجربة أتاحت له التعرف ونبش تاريخ المشهد الثقافي السعودي في خلال العقود الخمسة الأخيرة. مصدراً لصاحب (لا ماء في الماء) خمسة كتب بين 2011 و2015 وهي: (لا أحد في البيت - نمو المفاهيم - البئر المستحيلة - حلقات أولومبية - هموم الضوء - درس البحر) دون أن ننسى مؤلفات أحمد العلي الشاب؛ كتابان شعريان (نهام الخليج الأخضر) و(يجلس عارياً أمام سكايب) وآخر نصوصه النيويوركية البديعة: (كما يغني بوب مارلي: دليل التائهين إلى نيويورك). وعن نفوره من شبكات التواصل، يعلق لنا العلي: أجد نفسي ممتلئًا وفائضًا بالتقزز، فتخصصي الهندسي القديم هو البرمجة، صنع البرامج الحاسوبية والشبكية، لست فقيرَ فهمٍ تقنيًا أو ثقافيًا، لكنني أقسّم وقتي في ما يعود عليّ وعلى الثقافة بما يضيف، للأمر علاقة بعادات القراءة والكتابة والدراسة والعمل والأسرة أيضًا. منتقداً ما آل إليه حال المثقفين: "صار لدينا مثقف فلورز وناقد فلورز وشاعر فلورز.. كتاب معروفون يلهثون هوساً لجمع الأتباع مطأطئون لغتهم وخطابهم النقدي (إن وجد) في ساحات تسويق نرجسياتهم". أما عن نظرته النقدية لموقع الإنسان الخلاق في شبكات التواصل، يجيب الشاعر العلي: "يرتابُ إنسانُ هذا العصر الشبكي من نفسه، ريبةً لم يجربها قط البشر الذي مروا على ظهر الكوكب. كان الإنسان ذا صورة واحدة، بعدٍ واحدٍ يجهرُ به أو يخفيه تبعًا لظروف الحياة ووجوه السلطة المتحكمة في مجرياتها، وقد جرّب أيضًا أن يكون بلا بُعدٍ ذاتيٍّ أساسًا، أن يكون تابعًا ومَقودًا ومَمحوًا في مجتمع أو آيدولوجية ما. ما الذي يحدث الآن؟ يكاد الإنسانُ الشبكي لفرط تشتته أن يُقيم حوارًا بين صوره الكثيرة". يضيف: "كثرة الصور التي يصنعها هذا الإنسان لنفسه مخيفة، مرعبة حتى حَيرة المرايا في ما ترى". ويرى العلي أن تمركز شبكات التواصل الاجتماعي في هذا العصر خلقت هذا الإنسان، أوجدته بأحشاء جديدة وذهنية غير مسبوقة". معلقاً: "البراعة هنا ليست في صنع ذات عميقة وواعية إن كانت الثقافة هي هدف الحياة، البراعة ليست في العمل والتنوير وهدم الجدران ومجاهرة الثقافة بعيوبها، أبدًا، فهذا النوع من الحرث والكدح لن ترفعه شبكات التواصل ارتفاع الشمس في عتمة قاهرة، فالبراعة كما تُفهم الآن هي في تفصيل أزياء للذات المنفرطة بما يناسب كل مجموعة متلقين على حدة؛ في تكثير الشخوص التي يمكن الظهور بها. هكذا استطاع هذا الإنسان الشبكي أن يبني قلعته الجماهيرية في شبكات التواصل الاجتماعي. وهكذا، تبعًا لذلك، صار الوقت مهدورًا في بناء تلك القلعة، وفي عقد التحالفات وتبادل الهدايا بين أمراء تلك القلاع!. بمعنى آخر، صار الناشر والناقد وغيرهما من لاعبي الأدوار الثقافية في المجتمع ينشرون أو ينقدون عملاً أدبيًا ما تبعًا لحجم القلعة التي بناها صاحب ذاك العمل، وإجادته المهادنة وصنع الأزياء المبهرة، تبعًا لبراعته في تكثير شخوصه، ليستفيد كلا الطرفين من ذلك؛ تبادل المتابعين وبناء الجماهيرية ومهادنة الثقافة، أي دفع الفراغ والنكتة المالحة إلى الواجهة وطلب السلامة". لكن ما الرد على هذه الظاهرة، يجيب العلي: "الرد على هذا المنحى يأتي غالبًا بشكلين؛ الأول هو البقاء في الشبكة والتماسك الأنيق، الجَلَد على هذا المقياس الأرعن بين الجماهيرية ووزن المعطى الثقافي وعدم التفريط بهذه التجربة الجديدة وسبر أغوارها. الشكل الآخر هو ما رسمته لنفسي، الابتعاد عن هذا الأذى كله، وهذا ما تقوم به الكائنات الهشة، لا تريد الريشة فضاء غير منذورٍ للطيور، فضاء التماسيح والدموع الكاذبة هو بحيرة للدمن".