بغض النظر عن الهياكل والمُسميات، يجب أن يبقى فكرُ الغلو والتطرف مرفوضاً في سوريا على جميع المستويات، ويجب أن يُعلِن كل من يستطيع الإعلان عن رفضه لهذه الظاهرة في كل مكان. يسري هذا على الأفراد كما يسري على المؤسسات، ويسري على السوريين في الخارج كما يسري على كل من يستطيع منهم في الداخل. وكلما كان الإنسان، أو المؤسسة، أقربَ للعمل العام، أصبح الإعلانُ المذكور أكثر وجوباً في حقهِ وحقها. لامجال هنا للتذرع بشبهة تشتيت الأنظار عن المواجهة مع النظام، لأن صعود التطرف نفسَهُ بات أكبرَ ورقةٍ في يد هذا النظام إعلامياً وسياسياً واجتماعياً، يستعمُلها ضد الثورة وأهلها داخلياً وإقليمياً وعالمياً، وصار أكبر عائقٍ داخلي يخلق الكوابح والمطبات في كل مايتعلق بالثورة وأدواتها وحاضنتها. لافُسحة أيضاً لخوفٍ زائف بأن رفض الغلو يأتي استجابة لرغبات الغرب أو أمريكا أو أي طرفٍ من الأطراف. فبعض هذه الأطراف يطربُ أصلاً لوجود الغلو ويعتبره عنصراً رئيساً في تبرير الاستقالة السياسية والأخلاقية للنظام الدولي من (الهم) السوري. والمتضررُ الأولُ والأكبرُ من كل ماله علاقة بالتطرف والغلو هو سوريا وثورتها، وإسلامُها الأصيل. ماهذا الذي يجري في بعض أرجاء سوريا؟ أيﱡ دينٍ هذا الذي أصبح مُختزلاً في التحريم والمنع والإجبار وملاحقة الناس وضمائرهم ومصادرة حقوقهم؟ ماعلاقة سوريا والإسلام بواقعٍ أصبح فيه الإسهامُ في التحريم، والإبداعُ في الضبط، والتفننُ في المنع، وظيفةً وإنجازاً وطريقاً لتحقيق أهداف الثورة؟! لماذا حميت المنافسة، واحتدم السباق في هذه القضايا، حتى صار هناك ملكيون أكثر من الملك. ولم يعد التحريم في الدين موقوفاً على عالم دين، بل شارك فيه كل من حفظَ آيةً وحديثين وأطلق لحيةً طويلة؟ كيف خرجت مفاهيم وأدوات الضبط الاجتماعي والثقافي والأخلاقي والأدبي والفني من دائرة أهل العلم والاختصاص،وتجاوزتهم إلى كل من هبَّ ودبَّ؟ من الذي أباح لنفسه توسيع دوائر المحرﱠمات والمُقدﱠسات حتى باتت هي الأصلَ في الدين وصارت محورَ تنزيله على حياة الناس وواقعهم؟ نسي البعض أن كتاب عقيدتهم يُوصف عندما يُذكر بالـ (كريم) وليس بالمُقدّس. وأن نبيهم أيضاً يُوصف عندما يُذكر بالـ (كريم) وليس بالمقدﱠس. لم ينتبهوا إلى دلالات الفرق المعرفي والفلسفي العميق بين استخدام وصف (المقدس) للإشارة إلى الكتب والأنبياء في اللغات الأخرى، وعدم استخدامه في اللغة العربية. غفلوا أن ذلك الكتاب لايدعو الناس إلى (تقديسه)، وإنما يدعو بدلاً من ذلك إلى النظر والتفكر والتدبر والسعي والعمل والرحمة. تجاوزوا حقيقة أن الكعبة (مُشرّفة) وليست (مقدّسة). قفزوا فوق المعاني الكامنة وراء عدم إمكانية استخدام تصريف (القدُّوس) إلا للإشارة إلى الخالق. لم يدركوا الإشارات الكامنة وراء الحرص الشديد على تجنّب التقديس للأشخاص وللأماكن وللمظاهر في النص الصحيح نظرياً، وفي العصر النقي الأول عملياً. امتلأ قاموس الحياة في بعض مناطق سوريا بالمحرمات حُكماً وعُرفاً. ووصلنا إلى درجة تشبه ماقصده الشاعر حين قال (حمارُ الزعيمِ زعيمُ الحمير). فبات الناس يخشون حتى من الحديث عن ذلك الحمار. ومابين تحريم الحديث عن الزعيم وتجريم الحديث عن حماره، تكاثرت مواضيعُ التحريم ومواضِعُهُ كالأرانب. عَمَرَ قاموس الأخلاق والعادات الاجتماعية بجميع مصطلحات ومشتقات العيب والحرام. تمّت محاصرة معاني الحرية. وجرى تضييق معاني الاستقلالية والاختيار الشخصي. حتى بات مطلوباً من الإنسان السوري ألا يختلف عن الآلة سوى في قدرته على الطعام والشراب والإنجاب. توقف الإبداع في مجالات الفكر والثقافة والأدب والفن، حتى لو كان لخدمة الثورة! صار سهلاً وصفُ كل إبداع بأنه ابتداع. واتهامُ كل تجديد بأنه طعنٌ للأصالة. و أيﱢ خروجٍ على المألوف بأنه منكرٌ وخطيئة. وكل رأي آخر بأنه مخالفٌ للإجماع. لايُدرك من يمارس هذه الطريقة في فهم الإسلام وتنزيله بأن توسيع دائرة المحرﱠمات بشكل سرطاني هو الوصفة المثالية لقتل عقلية الوقوف عند الحدود بشكلٍ نهائي، وهي عقليةٌ ضرورية، بتوازناتها، لاستمرار الحياة نفسها. لايعرف هؤلاء أن جهلهم بالموضوع ليس عذراً مقبولاً على طريق صناعة مستقبل الجماعات البشرية. وأن الضغط يولد الانفجار، وأن كل ممنوعٍ يُصبح مرغوباً. وأن من المستحيل عزل السوريين ومحاصرتهم في القرن الحادي والعشرين الميلادي في أقفاصَ زجاجية مُحصنة، ولو كانت تتسمى بأسماء دولٍ وإمارات إسلامية. ينسى هؤلاء أنهم يعيشون في عصرٍ عاصف، ولايعرفون شيئاً عن حيوية الإنسان بشكلٍ عام، وفي هذا الزمن تحديداً. لايفهمون طلاقة الحياة البشرية، حيث يمكن أن تتشكل دوماً ظروف تدفع المجتمعات للانتقال من النقيض إلى النقيض. ويُمكن لممارسات الضبط والمنع والتحريم والتقليد والإجبار على (نمطٍ) معين في التفكير والحياة أن تجعل (التغيير) في حد ذاته هدفاً، وأن يريد أولئك (المُجبَرون)تجربة كل شيءٍ كان محرﱠماً عليهم، بأي طريقةٍ وبأي ثمن. الأهمﱡ من هذا كله، ينسى البعض في غمرة انغماسهم بنشوة حمل رشاش أو ركوب عربة (بي كي سي) أن السوريين ثاروا على أعتى نظامٍ في العالم إن لم يكن في تاريخ الإنسانية، وأن ثورتهم كانت أولاً وقبل كل شيء بحثاً عن الحرية والكرامة. وأن هؤلاء قد يصبرون على ممارساتهم بُرهةً من عمر الزمان لأسباب متفرقة، لكنهم لن يقبلوا في نهاية المطاف بأن يعيشوا دون حريةٍ وكرامة، وسينقلبون بكل طريقةٍ،قد لاتخطر ببال أحد،على مثل ذلك الواقع، حتى لو تمت تغطيته بأسماء وشعارات إسلامية، والإسلامُ منها براء. waelmerza@hotmail.com للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS تبدأ بالرمز (80) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى 88591 - Stc 635031 - Mobily 737221 - Zain