مَن ينظر للممارسات الانتخابية الإعلامية والخطابات السياسية المتعلقة بالنظام السياسي والتي تصدر من الدولة الإيرانية يعتقد بأنها دولة ذات نظام سياسي ديمقراطي. هذه النظرة الإيجابية تعتبر طبيعية بالنظر لمن يرى في الممارسات الديمقراطية مؤشرات تدل على ديمقراطيتها مثل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية وتحديد مدة زمنية لإعادة الانتخابات، بالإضافة لوجود انتخابات متعددة على المستوى المحلي كالانتخابات البلدية. ومن جهة أخرى هناك دستور يتضمن بعض المواد التي تتحدث عن فصل السلطات الرئيسية مثل السلطة التشريعية والمتمثلة بمجلس الشورى، والسلطة التنفيذية المتمثلة بالرئاسة والحكومة، والسلطة القضائية بدرجاتها. وبذكاء كبير حرص النظام الإيراني على وضع بعض العناصر التي تجعل من الشكل الديمقراطي ظاهراً في الممارسات السياسية وذلك من خلال وضع معارضة برلمانية يبدو أنها تعارض قرارات الحكومة والأغلبية البرلمانية. وكما ذكرنا، بأنه من ينظر لهذه الممارسات الشكلية يعتقد أنها دولة ذات نظام سياسي ديمقراطي متكامل كما هي التجربة الغربية في تبنيها للديمقراطية وممارساتها الفعلية. ولكن من يعمق النظر قليلاً في ممارسات السلطات داخل النظام السياسي الإيراني أو من يقرأ الدستور الإيراني بتأنٍ، يجد أن كل الممارسات الديمقراطية ما هي إلا عمليات تسويقية للنظام الإيراني المنغلق والمستبد بالمجتمع الإيراني. ولكي نكون أكثر دقة في توضيح مثل هذا الوصف، سأعرض لبعض النقاط الرئيسية التي توضح مدى استبدادية النظام السياسي الإيراني تجاه شعبه بمختلف مكوناته العرقية والدينية والمذهبية. أولاً: صلاحيات المرشد الأعلى للثورة الخُمينية: في الوقت الذي نشاهد رئيساً للدولة الإيرانية وبرلماناً منتخباً، نقرأ في الدستور الإيراني بأن من يملك السلطة العليا في الدولة هو المرشد الأعلى للثورة الخُمينية حيث يملك سلطات غير محددة وتفوق كل السلطات التقليدية وغير التقليدية وجعله فوق جميع المؤسسات. فالمادة العاشرة بعد المائة (المادة 110)، "وظائف القائد وصلاحياته"، وضحت بشكل مباشر الصلاحيات التي يتمتع بها المرشد الأعلى للثورة الخُمينية والتي تتمثل في: 1) تعيين السياسات العامة لنظام جمهورية إيران الإسلامية بعد التشاور مع مجمع تشخيص مصلحة النظام؛ 2) الاشراف على حسن إجراء السياسات العامة للنظام؛ 3) إصدار الأمر بالاستفتاء العام؛ 4) القيادة العامة للقوات المسلحة؛ 5) إعلان الحرب والسلام والنفير العام؛ 6) نصب وعزل وقبول استقالة كل من: أ) فقهاء مجلس صيانة الدستور؛ (ب) أعلى مسؤول في السلطة القضائية؛ (ت) رئيس مؤسسة الإذاعة والتلفزيون في جمهورية إيران الإسلامية؛ (ث) رئيس أركان القيادة المشتركة؛ (ج) القائد العام لقوات حرس الثورة الإسلامية؛ (ح) القيادة العليا للقوات المسلحة وقوى الأمن الداخلي؛ 7) حل الاختلافات وتنظيم العلائق بين السلطات الثلاثة؛ 8) حل مشكلات النظام التي لا يمكن حلها بالطرق العادية خلال مجمع تشخيص مصلحة النظام؛ 9) إمضاء حكم تنصيب رئيس الجمهورية بعد انتخابه من قبل الشعب. أما بالنسبة لصلاحية المرشحين لرئاسية الجمهورية من حيث الشروط المعينة في هذا الدستور فيهم، فيجب أن تنال قبل الانتخابات موافقة مجلس صيانة الدستور، وفي الدورة الأولى تنال موافقة القيادة؛ 10) عزل رئيس الجمهورية مع ملاحظة مصالح البلاد، وذلك بعد صدور حكم المحكمة العليا بتخلفه عن وظائفه القانونية أو بعد رأي مجلس الشورى الإسلامي بعدم كفاءته السياسية على أساس من المادة التاسعة والثمانين؛11) العفو أو التخفيف من عقوبات المحكوم عليهم في إطار الموازين الإسلامية بعد اقتراح رئيس السلطة القضائية. ويستطيع القائد أن يوكل شخصا آخر أداء بعض وظائفه وصلاحياته. يتضح مما جاء في هذه المادة الدستورية بأن المُرشد الأعلى للثورة الخُمينية هو الذي يمسك بجميع الصلاحيات والسلطات وما الآخرون إلا موظفون لديه وإن كان عن طريق انتخابات يبدو أنها شعبية. ثانياً: هيمنة رجال الدين على جميع المؤسسات التقليدية وغير التقليدية: فعلى الرغم من وجود انتخابات شعبية ومباشرة لبعض المؤسسات التقليدية وغير التقليدية، إلا أن من يحق له الترشح لهذه المناصب ومن يحق له شغلها يجب ان يكون من طبقة رجال الدين الذين يحظون بدعم المرشد وبرضا الطبقة الدينية المحافظة. فعلى سبيل المثال نصت المادة الخامسة عشرة بعد المائة (المادة 115) بأنه "ينتخب رئيس الجمهورية من بين الرجال المتدينين السياسيين الذي تتوفر فيهم الشروط التالية:.. ومن هذه الشروط أن يكون مؤمناً ومعتقداً بمبادئ جمهورية إيران الإسلامية والمذهب الرسمي للبلاد". وهذا يعني أن النظام السياسي نظام نخبة محددة وليس نظاماً شعبياً يحظى بدعم كافة أفراد المجتمع. أيضاً ما ينطبق على الرئاسة ينطبق على المؤسسات الأخرى مما يعني احتكار رجال الدين للسلطة على حساب التوجهات الأخرى داخل المجتمع الإيراني متعدد التوجهات والرؤى السياسية. ثالثاً: حصر تولي المناصب القيادية في أتباع المذهب الجعفري الاثني عشري: فبحسب المادة الثانية عشرة (المادة 12) فإن "الدين الرسمي لإيران هو الإسلام والمذهب الجعفري الاثنا عشر، وهذه المادة تبقى إلى الأبد غير قابلة للتغيير". وهذا يعني أن كل مناصب الدولة سوف تكون لمن يتبع هذا المذهب بالتحديد. كذلك يعني أن أتباع المذاهب الإسلامية الأخرى وأتباع الديانات الأخرى لن يتولوا أي مناصب رفيعة في الدولة الإيرانية. رابعاً: غلبة التوجهات الراديكالية على النظام السياسي الإيراني: فخلال الثلاثة عقود الماضية من عمر الثورة الخُمينية نجد أن من سيطر على النظام السياسي الإيراني هم من ذوي التوجهات الراديكالية، باستثناء من يُعتقد أنه براغماتي مثل الرئيس خاتمي. هذه التوجهات الراديكالية المُتبناة دستورياً ومنها جاء في المادة الرابعة والخمسين بعد المائة (المادة 154) بأن ".. جمهورية إيران الإسلامية تقوم بدعم النضال المشروع للمستضعفين ضد المستكبرين في أية نقطة في العالم..". فمثل هذه التوجهات الراديكالية تجعل النظام السياسي الإيراني يمارس استبدادية مفرطة تجاه شعبه بدعوى أنه يريد تحقيق العدالة التي احتكر تعريفها. ومن جهة أخرى أثبتت أحداث الثورة الخضراء التي حدثت عام 2009م بأن هناك رفضاً رسمياً للتوجهات المعتدلة والإصلاحية لحساب التوجهات الراديكالية. فما قام به المرشحان لمنصب الرئاسة الإيرانية المرشح مير حسين موسوي والمرشح الآخر مهدي كروبي من طرح برنامج إصلاحي وعدم قبولهم بنتائج الانتخابات والطعن فيها وحصولهم على تأييد شعبي كبير وانتهاءً بفرض الاقامة الجبرية عليهما منذ 2009م، علماً بأنهما من الموالين للثورة الخُمينية وللنظام السياسي الإيراني. ومن جهة أخرى يتضح لنا بأن هناك انقساماً كبيراً داخل النخبة الحاكمة في الدولة الإيرانية وذلك بسبب رؤية البعض بأنه إذا لم يكن هناك انفتاح وتغيير، فقد يعاني النظام السياسي الإيراني من مشاكل داخلية متصاعدة بسبب احتكار السلطة وفرض أجندتها على المجتمع. خامساً: تكلفة صناعة العُملاء بالخارج على حساب الشعب الإيراني: فنتيجة لتبني الراديكالية السياسية وتصدير الثورة الخُمينية للخارج، عمل النظام السياسي الإيراني على صناعة العُملاء في الدول العربية بشكل خاص والدول الأخرى بشكل عام. وكان من نتيجة ذلك صرف مليارات الدولارات سنوياً على عملائه والمرتزقة في الخارج والذين سخروا أنفسهم لخدمة أهداف ومصالح الدولة الإيرانية مقابل الحصول على الأموال. وكان من هؤلاء العُملاء حسن نصرالله في لبنان وجماعة الحوثي في اليمن وبعض الأحزاب الصغيرة في بعض الدول العربية والتي تُسمي نفسها بحزب الله، وبعض العُملاء والميلشيات في العراق وسوريا. ففي سبيل تصدير الفوضى الإيرانية للخارج، يقوم النظام الإيراني بتسخير إمكانات الشعب الإيراني الضعيفة والقليلة لخدمة أهدافه الخارجية في الوقت الذي لا يحصل الشعب الإيراني على أقل حقوقه المشروعة. وفي نظره سريعة، فإنه حسب الاحصاءات الدولية نجد أن نسبة السكان الإيرانيين الذين يحصلون على أقل من دولارين في اليوم حوالي 7.3% من الشعب الإيراني، ونسبة السكان الذي يعيشون تحت خط الفقر حوالي 18% حسب احصاء عام 2007م. هذه الإحصاءات تقول إن ما يزيد عن عشرين مليون إيراني يعيشون تحت خط الفقر في الوقت الذي يقوم به النظام السياسي الإيراني بتقديم مليارات الدولارات لدعم الفوضى الخُمينية في الدول الأخرى. ولكن هل يستطيع أحد من الإيرانيين انتقاد النظام السياسي الإيراني، أم أن الاستبداد وفرض نظام الدولة البوليسية يمنع الشعب الإيراني حتى من إبداء وجهة نظره. وإذا كانت هذه مؤشرات محدودة على استبدادية النظام السياسي الإيراني تجاه شعبه، إلا ان المؤشر الأول يغني عن جميع المؤشرات. فكيف لنظام يدعي بأنه نظام سياسي ديمقراطي، وفي نفس الوقت يجعل المرشد الاعلى للثورة الخُمينية الوحيد الذي يملك جميع الصلاحيات والسلطات في الوقت الذي لم ينتخبه أحد وإنما يعين من قبل مجلس تشخيص مصلحة النظام الذي يعينه هو شخصياً. وهذه الصلاحيات المطلقة مكنته من فرض فكره الراديكالي على جميع المؤسسات الرسمية التقليدية وغير التقليدية لتصدر القرارات وتنفذ السياسات التي يأمر بها. كذلك انفراده بالسلطة أعطى القوات الداخلية أو قوات التعبئة الشعبية –الباسيج– الفرصة لممارسة سلطاتها وفرض نظام الدولة البوليسية على أفراد الشعب الإيراني لتمنع من شاءت وتسمح لمن شاءت وتفرض القوانين التي تراها تنفيذا لرؤية وتوجهات مُرشد الثورة. هذا الفرض المستمر لنظام الدولة البوليسية، والذي وصل حد وضع قوانين تمنع الشعب الإيراني من امتلاك أجهزة خاصة لمشاهدة الاعلام الخارجي، يجعل من وصف الدولة الإيرانية بأنها دولة بوليسية استبدادية أقرب للواقع منه للتنظير. ومن الأهمية القول إن النظام الإيراني الذي نجح خلال العقود الماضية بالتسويق لنفسه بأنه نظام ديمقراطي يتمتع فيه جميع افراد الشعب الإيراني بحقوقه قد انكشف أمره للرأي العام في الدول العربية والاسلامية وعلى المستوى الدولي. فمن خلال ممارسات النظام السياسي الإيراني تجاه شعبه وخاصة في الخمسة أعوام الماضية نجد أن كل الادعاءات التي بُنيت خلال العقود الثلاثة الماضية ثبت بطلانها واثبت عدم مصداقيتها المواطن الإيراني من خلال الاحتجاجات الشعبية، حتى وصل الأمر لأن يعارض استبدادية النظام السياسي الإيراني بعض رموزه السابقين مثل مير حسين موسوي الذي شغل منصب وزير خارجية ثم رئيساً للوزراء لمدة ثمانية أعوام خلال فترة حكم الخُميني. وأخيراً، فإنه في الوقت الذي يبدوا بأن النظام الإيراني قوي ومتماسك، فإنه في واقعه غير ذلك. فما نشاهده وما نسمعه يأتينا فقط من جهة واحدة هو النظام السياسي الإيراني الذي يفرض توجهاً واحداً ورؤية موحدة، وفي نفس الوقت يمنع كل من يفكر في إبداء وجهة نظره بشكل يخالف التوجهات العامة والتوجيهات البوليسية. فمن ينظر للمحاكمات والاعتقالات والاعدامات التي تصدر عن النظام السياسي الإيراني يدرك تماماً بأنه نظام يقوم على الأداة البوليسية التي تمكنه من الاستمرار. ولكن التساؤل، إلى أي مدى يستطيع النظام السياسي الإيراني الاستمرار في استبداده للشعب الإيراني مختلف المذهبيات والديانات ومتعدد العرقيات والتوجهات الفكرية والثقافية والسياسية؟ وإلى أي مدى يستطيع الشعب الإيراني الصبر على الفقر وغياب التنمية في الوقت الذي يرى نظامه السياسي يصرف مليارات الدولارات على العُملاء والمرتزقة في الدول الأخرى؟ أسئلة قد نجد إجاباتها من الشارع الإيراني في السنوات القادمة. * أستاذ ورئيس قسم العلوم السياسية - جامعة الملك سعود