دخل «المواطن الليبي» ع. (تتحفظ «الحياة» عن نشر اسمه) المغرب عبر مطار محمد الخامس في الدار البيضاء من دون أن يثير أي شبهات. فعلى مدى 25 عاماً لم يكن الليبيون بحاجة إلى «فيزا» لدخول المغرب بعدما أُلغي في العام 1989 نظام التأشيرة كنتيجة لقيام الاتحاد المغاربي (المجمّد حالياً والذي يضم إلى المغرب كلاً من الجزائر وموريتانيا وتونس وليبيا). وعلى هذا الأساس، كان طبيعياً أن يُسمح لـ «الليبي» بدخول المغرب، خصوصاً أن جواز سفره كان سليماً تماماً ويحمل صورته واسمه. بعد فترة من مجيئه مطلع العام 2014، اكتشفت أجهزة الأمن المغربية «خلية إرهابية» تنشط في تجنيد مواطنين للالتحاق بـ «الجهاد» في سورية، وكان هو أحد مسؤوليها الرئيسيين. وفي الواقع، لم يعرف الأمن المغربي الهوية الحقيقية لهذا «الليبي» سوى بعد توقيفه. فقد تبيّن أنه «جهادي» مغربي فر من بلده وارتبط بشبكة تابعة لتنظيم «القاعدة» في سورية. وفي التحقيقات معه، تبيّن أنه كان موقوفاً لدى سلطات الأمن التركية، لكن شبكة «جهادية» يرتبط بها تولت تأمين خروجه من سجنه التركي بعدما زودته جواز سفر ليبياً صحيحاً بالاسم والصورة، ورتبت تسفيره إلى المغرب من أجل العمل على تجنيد مزيد من المتطوعين لـ «الجهاد» من أبناء بلده. كان كشف الاستخبارات المغربية أمر هذا «الجهادي» السبب الرئيسي الذي دفع الرباط إلى فرض التأشيرة على الليبيين في شباط (فبراير) 2014، في قرار أثار حينها انتقادات في ليبيا وتهديدات بالرد بالمثل. لكن الرباط لم تكتف بفرض التأشيرة، بل أعلنت أيضاً «تعليقاً موقتاً» لرحلات الطيران مع ليبيا ومنعت طائرات هذه الدولة من دخول الأجواء المغربية، في ظل مخاوف من إمكان استخدام طائرات مخطوفة في عمليات إرهابية على غرار هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001 ضد الولايات المتحدة. وتحدثت وسائل إعلام مغربية آنذاك عن نشر بطاريات صواريخ مضادة للطائرات في مدن ساحلية على المحيط الأطلسي والبحر المتوسط، ما عزز المخاوف من احتمال حصول هجوم بطائرات ركاب مدنية. ارتأت السلطات المغربية كما يبدو التكتم على خلفية إجراءاتها هذه، مكتفية بالقول أنها مرتبطة بالإرهاب. لكن الأكيد أن أجهزة الأمن كانت تشعر بقلق بالغ من أن «الجهاديين» المغاربة – الذين نفذوا سلسلة هجمات داخل البلاد أبرزها التفجيرات الانتحارية في الدار البيضاء عام 2003 وآخرها تفجير «مقهى أركانة» في ساحة مسجد الفناء بمراكش عام 2011 - باتوا الآن قادرين على التنقل بجوازات سفر صحيحة صادرة رسمياً عن الحكومة الليبية، من دون أن يعني هذا أن مسؤولي هذه الحكومة كانوا يعرفون بمسألة إصدار جوازات ليبية في شكل غير شرعي لأشخاص غير ليبيين. تصادف اعتقال المغربي – «الليبي المزيّف» - مع نشاط غير مسبوق لـ «الجهاديين المغاربة» في سورية، توّج بمشاركتهم ضمن تحالف لجماعات إسلامية في «معركة الأنفال» الضخمة في ريف اللاذقية الشمالي على الحدود مع تركيا. وقد لعب المغاربة دوراً لا بأس به في تلك المعركة لكنهم سرعان ما فقدوا قائدهم إبراهيم بن شقرون أو «أبو أحمد المغربي»، وهو معتقل سابق في سجن غوانتانامو في كوبا بعدما أوقفته باكستان إثر الغزو الأميركي لأفغانستان عام 2001. حوكم بن شقرون بعد ترحيله إلى المغرب عام 2004، ووجده القضاء المغربي عام 2007 مذنباً بتهم إرهابية لها علاقة بشبكة «جهادية» ناشطة بين سورية والعراق وأمر بسجنه ست سنوات. بعد قضائه فترة عقوبته، تمكن بن شقرون من مغادرة المغرب وسارع إلى الالتحاق بالقتال في سورية حيث أسس مع مغاربة آخرين مجموعة «جهادية» باسم «حركة شام الإسلام» عام 2013. وبرز اسم هذه المجموعة في البداية في آب (أغسطس) من ذلك العام خلال هجوم دموي شنته فصائل «جهادية» عدة على قرى علوية في ريف اللاذقية وتم خلاله ارتكاب عمليات ذبح جماعية ضد مدنيين، وفق ما قالت منظمات حقوقية دولية. ثم برز ثانية في شباط (فبراير) 2014 خلال الهجوم الذي شنّه «الجهاديون» على بلدة كسب والجبال القريبة منها في ريف اللاذقية أيضاً، ما أوحى بأن نشاط مغاربة «شام الإسلام» يتركز في شمال سورية وبالتحديد في مناطق الحدود مع تركيا. بعد مقتل بن شقرون في مطلع نيسان (ابريل) 2014 في معركة ضد الجيش السوري في «المرصد 45» في اللاذقية، خلفه في قيادة «شام الإسلام» مغربي آخر من «مغاربة غوانتانامو» يدعى محمد مزوز (أبو العز المهاجر). وقد ظهر مزوز في شريط فيديو في كانون الأول (ديسمبر) 2014 رد فيه على مشايخ مغاربة معروفين (مثل الشيخ محمد الفيزازي) نهوا فيه عن المشاركة في القتال في سورية باعتبار أن ما يحصل هناك «فرض كفاية». لكن مزوز رفض هذا الموقف، داعياً الشبان المغاربة إلى الالتحاق بالقتال في سورية ومبايعة أمراء «شام الإسلام». وليست هناك تقديرات دقيقة لأعداد المقاتلين المغاربة في صفوف هذه المجموعة، لكن تقارير مختلفة تقول أنهم بضع مئات (بين 600 و700) يُقاتلون حالياً في إطار «جبهة أنصار الدين» التي نشأت العام الماضي كتحالف لجماعات جهادية عدة ناشطة في سورية وتُعتبر كلها قريبة من تنظيم «القاعدة» وفرعها السوري «جبهة النصرة». لكن مغاربة «شام الإسلام» ليسوا الوحيدين الذين يشكّلون اليوم صداعاً للأجهزة المغربية على رغم نجاحها خلال الفترة الماضية في تفكيك عشرات الخلايا المشتبه بتورط أفرادها في الإرهاب، وتحديداً من خلال ارتباطهم بـ «القاعدة» وفرعها المغاربي (في الجزائر ومالي وليبيا على وجه الخصوص). إذ تلاحظ أجهزة الأمن المغربية حالياً تنامياً لافتاً لنشاط مؤيدي تنظيم «الدولة الإسلامية» ليس فقط من خلال شبكات تجنيد المتطوعين للقتال في سورية والعراق، بل أيضاً للقيام بعمليات إرهابية داخل المغرب نفسه. ولعل الاكتشاف الأضخم لنشاط ما يُعرف بـ «داعش المغرب» حصل في أواخر آذار (مارس) الماضي على أيدي «المديرية العامة لمراقبة التراب الوطني» (الاستخبارات الداخلية بقيادة عبداللطيف الحموشي). فقد أعلن عبدالحق الخيام مدير «المكتب المركزي للأبحاث القضائية» الحديث النشأة والمتفرع عن الاستخبارات الداخلية توقيف 13 شخصاً من أعضاء ما يُعرف بـ «ولاية الدولة الإسلامية في بلاد المغرب الأقصى»، قائلاً إنهم كانوا يعتزمون القيام بعمليات إرهابية داخل المغرب بعدما «قدّموا البيعة لداعش في العراق»، ولافتاً أيضاً إلى «صلة مباشرة» تربطهم بالتنظيم الذي يقوده «الخليفة» أبو بكر البغدادي، وفق ما يُطلق عليه أتباعه. وكشف الخيام الذي يوصف جهازه بـ «أف بي آي المغرب»، أن أفراد هذه الخلية كانوا على علاقة في السابق بتنظيم «القاعدة»، ما يشير إلى أن الأمن المغربي لا يرى هامش فرق كبيراً بين أتباع هذا التنظيم وأتباع «غريمه» تنظيم «الدولة الإسلامية»، إذ إن كلاً منهما يستقطب مناصرين من «الوعاء الجهادي» ذاته. وقال الخيام أيضاً أن الموقوفين عُثر معهم على كميات كبيرة من الأسلحة وكانوا يتحركون انطلاقاً من «بيوت آمنة» في أكثر من مدينة مغربية، كما أنهم كانوا يعملون على «استقطاب وتسفير شباب إلى منطقة الحدود السورية – العراقية» حيث ينشط تنظيم «داعش». ويتولى مغاربة حالياً مسؤوليات متعددة ضمن هياكل هذا التنظيم سواء في العراق أو سورية، وكان أشهرهم الأمير السابق لـ «ولاية حلب» عبدالعزيز المهدلي الذي قتل في آذار (مارس) 2014. ويقدّر عدد «مغاربة تنظيم الدولة» ببضع مئات، لكنه على الأرجح في ارتفاع نظراً إلى استمرار عمليات التجنيد والالتحاق بما يُعرف بـ «دولة الخلافة» على رغم ضربات التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة منذ صيف العام الماضي. وأفاد تقرير رسمي في أيلول (سبتمبر) 2014 بأن عدد المغاربة الذين يقاتلون في سورية يبلغ أكثر من 1200 بينهم 218 من السجناء الإسلاميين الذين أفرج عنهم من سجون المملكة، علماً أن تقديرات أمنية حديثة ترجّح أن رقم المقاتلين المغاربة يبلغ أكثر من 1300. ويُضاف إلى هؤلاء أكثر من 254 مغربياً قُتلوا في معارك أو تفجيرات انتحارية (219 في سورية و35 في العراق). ولعل ما يزيد من هذه الأرقام قلقاً للأجهزة الأمنية أن مئات آخرين من أصول مغربية يقاتلون أيضاً في سورية والعراق لكنهم يُحسبون في الإحصاءات على دول أوروبية اكتسبوا جنسياتها. ومن بين هؤلاء ما لا يقل عن 360 بلجيكياً و52 فرنسياً و37 هولندياً و13 إسبانياً وستة ألمان وثلاثة بريطانيين. وتنشط غالبية هؤلاء في إطار «حركة شام الإسلام» التي تقول السلطات المغربية أن «استراتيجية» قادتها تقوم أساساً على فكرة تدريب المتطوعين المغاربة «على المهارات العسكرية... ثم نشرهم لاحقاً في المغرب بهدف القيام بمشاريع إرهابية أوسع»، وهي استراتيجية لا تختلف في الواقع عن تلك التي يعتمدها اليوم أعضاء «ولاية المغرب الأقصى» في تنظيم «الدولة الإسلامية»، ما يعني أن الأمن المغربي في سباق مع الزمن لكشف «خلايا الجهاديين» وتفكيكها قبل نجاحهم في القيام بهجماتهم. * صحافي لبناني من أسرة «الحياة»