بيروت: كارولين عاكوم في بلد يجمع 18 طائفة، لا تقتصر المناسبات فيه على فئة دون أخرى. الأعياد عامة والطقوس شبه مشتركة بين الجميع، كلّ على طريقته. ولشهر رمضان بعاداته وأجوائه، خصوصيته في لبنان. وهذا ما يبدو واضحا في الأجواء التي تعمّ معظم المناطق قبل أسبوع من بداية الشهر الفضيل، استعدادا لاستقباله. وللاستمتاع بأجواء هذا الشهر وطقوسه على أكمل وجه يحرص أبناء بعض الطوائف على مشاركة المسلمين الصوم لا سيّما إذا كانوا مدعوين إلى الإفطار عند أصدقائهم. وفي هذا الإطار، يذكر أنّ رجل دين في إحدى كنائس بيت مري في جبل لبنان طلب من المؤمنين الصوم الأسبوع الأخير من رمضان المبارك، والحرص على عدم تناول الطعام أمام الصائمين. لكن من جهته، أوضح مدير المركز الكاثوليكي للإعلام الخوري عبدو أبو كسم، لـ«الشرق الأوسط» أنّ هذا القرار ليس عاما أو دائما في لبنان، إذ قد يدعو إليه بعض رجال الدين بناء على قرار شخصي، مذكرا أنّ معظم الكنائس في لبنان كانت قد دعت إلى صوم يوم واحد في العام 2001 انطلاقا من الدعوة التي أطلقها البابا جان بول الثاني وتحديدا بعد أحداث 11 في الولايات المتحدة الأميركية، وحصل أمر مماثل في سنة لاحقة تضامنا مع فلسطين المحتلة. مع العلم، أنّه في عام 2001 كان قد طلب البابا من المسيحيين مشاركة المسلمين في صوم يوم الجمعة الأخير من شهر رمضان الذي صادف في 14 ديسمبر (كانون الأول)، ولبى عدد كبير من المسيحيين الدعوة التي أطلقت من أجل الدعاء للسلام والأمن في العالم. وليس بعيدا عن هذه العادات المشتركة أيضا، تؤكد كارول، أنّها تحرص كل عام على الصوم ولو ليوم واحد، أما إذا كانت مدعوة إلى الإفطار لدى أصدقائها المسلمين فهي تمتنع عن الطعام طوال النهار وتكتفي فقط بالماء، كي تشعر بقيمة مائدة الإفطار ولذّتها. كذلك يحاول بعض اللبنانيين المسيحيين الصوم في اليوم الأوّل من الشهر الفضيل، فيما يعمد البعض الآخر إلى إعداد موائد رمضان على الطريقة الإسلامية ودعوة أصدقائهم المسلمين إلى بيوتهم للاجتماع على الإفطار. وبما أن إفطار رمضان اللبناني الغني بأنواعه وأطباقه التي لا تقاوم، تبقى وصية سامي (المسيحي) لزوجته المسلمة عدم الاعتذار عن أي دعوة على الإفطار تقدم لهما من قبل أقربائها مهما كان السبب، لأنّ لهذه المائدة سحرها الخاص وفق قوله. من جهة أخرى فإن للطائفة الدرزية وشيوخها حضورهم أيضا البارز في هذا الشهر، إذ وفي حين يعتبر فرض الصوم أساسيا بالنسبة إلى البعض، تقتصر المشاركة من البعض الآخر على الصوم لأيام معدودة، وهذا ما تؤكّد عليه لينا (30 عاما)، مشيرة إلى أنّها ومنذ كانت صغيرة تصوم ولو ليوم واحد في شهر رمضان، وهي العادة التي يتقيد بها معظم أفراد العائلة، فيما يحرص أخوالها، وهم شيوخ على تأدية فريضة الصوم بشكل كامل طوال ثلاثين يوما. ولليالي الرمضانية أيضا، عناوينها شبه الثابتة والتي تدخل ضمن البرنامج اليومي والأساسي لمعظم اللبنانيين على اختلاف فئاتهم. من محلات الحلويات والمأكولات إلى المقاهي والمطاعم وغيرها من أماكن الترفيه كلّها تتحوّل إلى عناوين أساسية للسهرات وطقوسها العامة. وللأطباق التي تحمل الصفة الرمضانية موقعها الذي لا ينافسه منافس في هذا الشهر. ومحلات الحلويات تشكل خير نموذج لهذا الواقع اللبناني الجامع، فهنا يصبح تناول «الكلاج» و«القطايف» و«الجلاب» وغيرها من أنواع الحلوى من الأولويات، لا سيّما أن وجودها يكاد يكون مقتصرا على رمضان، ويصبح السباق للحصول عليها من مختلف الفئات والطوائف والأعمار. وخير مثال على ذلك، محلات الرشيدي في منطقة الأشرفية. فهنا حيث رائحة الحلويات الشهية تشكّل دليلا على عنوان المحلّ، معظم الزبائن هم من المسيحيين الذين يتوافدون منذ اليوم الأوّل للصوم للاحتفال بالشهر الفضيل بتذوق هذه الحلويات. وهذا ما يلفت إليه صاحب المحل «سامر الرشيدي»، قائلا لـ«الشرق الأوسط»» قد يسأل البعض لماذا التركيز على الحلويات الرمضانية وزيادة إنتاجها في هذا الشهر الفضيل في منطقة مثل الأشرفية، لكن الواقع هو عكس ذلك تماما، فليس مبالغا القول: إنه منذ اليوم الأوّل لشهر رمضان يقف الزبائن بالدور للحصول على طلباتهم، وهم في معظمهم من الطائفة المسيحية، والذين يعتبرون من زبائن المحل الأوفياء منذ أكثر من 30 عاما. وفي حين يشير الرشيدي إلى أنّ أكثر طلبات هؤلاء ترتكز على «الكلاج» و«زنود الست» و«القطايف» و«حدف رمضان»، يؤكّد أن زبائنه يقصدونه أيضا من مناطق بعيدة من كسروان وجبيل، خصيصا للحصول على هذه الحلويات. أمّا تاريخيا، فيشرح الدكتور المؤرخ حسان حلاق، أنّ الأجواء الرمضانية هذه التي تعم المناطق اللبنانية جامعة مختلف الطوائف، تعود إلى مئات السنين، وتحديدا إلى العهد العثماني. ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «منذ ذلك الحين كانت مختلف المناسبات الدينية والوطنية والاجتماعية شبه مشتركة بين اللبنانيين، ولشهر رمضان بصمته الأهم في هذا الإطار»، مضيفا: «الأمر اللافت للنظر أنّ مثل هذه المناسبات الدينية رغم أنها تهم المسلمين بالدرجة الأولى لكن العيش المشترك في بيروت خاصة ولبنان عامة جعل من رمضان مناسبة دينية واجتماعية في آن واحد». ويشير الحلاق إلى أنّ الوثائق والوقائع التاريخية تشير إلى أن المسيحيين يشاركون المسلمين أعيادهم ومناسباتهم، وأهمها شهر رمضان. وكان وسط بيروت، بحسب حلاق، يشكل صورة نموذجية لهذا التعايش، منذ العهد العثماني، إذ كان الجميع يحرصون في أوّل يوم رمضان على زيارة المسلمين في محلاتهم التجارية حاملين معهم بعض الأنواع من الحلويات الرمضانية المعروفة. وهنا يلفت إلى أنّ المناطق المشتركة في بيروت، أي تلك التي تجمع مختلف الطوائف، كانت ولا تزال تشهد إفطارات مشتركة. وفي مقارنة بين الماضي والحاضر، يجد حلاق أنّ الوالي العثماني كان يقيم الإفطارات في رمضان داعيا رجالات الدولة من المسلمين والمسيحيين، بينما لا تزال اليوم العادة نفسها مستمرة لدى الرؤساء اللبنانيين ومعظم رجال السياسية والمؤسسات الاجتماعية والخيرية من مختلف الطوائف. وهنا يذكر، بأنّ عددا من رؤساء الجمهورية السابقين وعلى رأسهم بشارة الخوري كان يحرص سنويا على المجيء إلى صالون الجامع العمري الكبير لتقديم المباركة للمسلمين ولا سيما مفتي الجمهورية آنذاك محمد خالد.