على رغم قطع شوط معتبر على صعيد تسوية الأزمة الكردية التي تشتعل جذوتها منذ عام 1984، وراح ضحيتها ما يقرب من 40 ألف شخص، إلا أن تجدد الصدام في 11 نيسان (أبريل) الجاري بين الجيش التركي ومقاتلي حزب العمال الكردستاني في محافظة آغري جنوب شرقي تركيا، ساهم في تسخين الأزمة وأعاد التوتر المكتوم على السطح، وفتح الباب واسعاً أمام فرص تسوية الأزمة قبيل العملية التشريعية التي يراهن عليها أردوغان في تحويل مجرى النظام السياسي. وشهدت المواجهات التي تزامنت مع بدء الدعاية الانتخابية سقوط خمسة مسلحين أكراد وإصابة 4 جنود من الجيش التركي الذي ما زال يرى الأكراد كياناً إرهابياً يسعى إلى تفتيت وحدة الدولة الكمالية. وكان بارزاً، هنا، مطالبة رئيس الأركان الجنرال نجدت أوزيل حكومة أوغلو باتخاذ تدابير عاجلة لمواجهة خطر التمرد الداخلي فضلاً عن إرسال الجيش قوات إضافية وطائرات استطلاع وطائرات هليكوبتر إلى إقليم آغري في خطوة تشي باحتمالات تصاعد المواجهات. والأرجح أن تجدد التراشق الكردي التركي يشير إلى تداعي عملية السلام الهشة التي انطلقت من دون أسس إجرائية في عام 2012، وربما يعيد خريطة التوازنات الانتخابية فضلاً عن احتمال تعقيد السوق التصويتية. ففي الوقت الذي اعتاد أردوغان مهاجمة مناهضى التسوية ومارس ضغوطه على الحكومة لتمرير الإصلاحات المنوط بها زيادة حقوق الأكراد، فإنه اتخذ مساراً معاكساً حين اتهم «حزب الشعوب الديموقراطية» الذي يخوض الانتخابات للمرة الأولى منفرداً بالمسؤولية عن وقوع الاشتباكات والتعاون من وراء ستار مع الجماعات المسلحة للتأثير في أصوات الناخبين لمصلحته. وكان «حزب الشعوب الديموقراطية» برئاسة صلاح دميرطاش، نجح طوال الشهور التي خلت في تصدير صورة ذهنية إيجابية للحزب ولعدالة القضية الكردية، وبدا ذلك في جذبه أصواتاً يسارية وليبرالية غير كردية فضلاً عن أنه بات الخيار الأفضل للأقليات التركية «العلويين والأرمن»، وهو ما يرشحه لتجاوز العتبة الانتخابية ودخوله البرلمان للمرة الأولى بحصوله على أكثر من 10 في المئة من الأصوات ناهيك عن تصعيب مأمورية «العدالة والتنمية» في الحصول على الغالبية بعدما اعتاد أن يظفر بنحو 40 مقعداً من أصوات الأكراد لفشل حزبهم في تخطى الحاجز الانتخابي. في السياق العام تبدو فرص أردوغان في إنجاز تسوية سياسية للأزمة الكردية أو على الأقل ضمان الصوت الكردي على المحك لاعتبارات عدة؛ أولها عودة الجنرالات إلى الواجهة في مواجهة نفوذ «العدالة والتنمية»، وإصرار الجيش خلافاً لأردوغان بأهمية قضم الأكراد باعتبارهم جماعة مسلحة تناهض الدولة. وكان المدعي العام التركي أحرج الرئيس أردوغان حين نسف قضية الجنرالات التي شغلت الرأي العام طوال السنوات الخمس الماضية حين برأ نحو 236 عسكرياً في القضية المعروفة إعلامياً بـ «أرجينيكون» أو «المطرقة»، وكشفت حيثيات الحكم عن أن «الأدلة واهية وليس لها علاقة سواء بمخطط انقلابي حقيقي أو بالمتهمين». ويرتبط الاعتبار الثاني بتصاعد نفوذ الأكراد سياسياً، وتجلى ذلك في خلق زخم دولي في شأن القضية الكردية ناهيك عن الانفتاح الأميركي الأوروبي على أكراد سورية، وهو الأمر الذي مهد بطبيعة الحال للتواصل مع أكراد تركيا. وكشفت أزمة عين العرب «كوباني» عن تواصل من وراء ستار بين حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي السوري «pyd» الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني المحظور في تركيا، ومسؤولين أميركيين وأوروبيين ناهيك عن تقديم دعم عسكري لوحدات حماية الشعب الكردي في كوباني. ولم تكن اللقاءات التي عقدت بين أكراد سورية والإدارة الأميركية هي الأولى من نوعها، إذ سبقتها اجتماعات مع قادة في حزب pyd ، لكن لم يُعلن عنها منعاً لإغضاب تركيا بحسب ما ذكره نواف خليل الناطق باسم حزب الاتحاد الديموقراطي في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي. وكانت جهود تركيا قد أحبطت في الشهور التي خلت، لجهة أن يكون هناك إنهاء تام لحزب العمال الكردستاني كتنظيم مسلح بسبب الدور الذي اتخذه الحزب في القتال في سورية والعراق في مواجهة «داعش». وراء ذلك، فإن عملية التسوية تبقى على المحك في ظل إصرار «حزب الشعوب الديموقراطية» دخول المعركة التشريعية خارج عباءة «العدالة والتنمية»، مقابل إنجاز تحالفات انتخابية مع قوى سياسية يسارية وليبرالية مناهضة للرئيس أردوغان. على صعيد ذي شأن، فإن مشهد تسوية الأزمة الكردية يبدو الآن أكثر قتامة مع إعادة الإجراءات الاستثنائية والقمعية مثل فرض حظر التجوال وإنزال الجيش للمرة الأولى منذ سنوات إلى ديار بكر حيث الغالبية الكردية، ومن جهة أخرى تجاهل المتظاهرون الأكراد والجناح العسكري لـ «حزب العمال الكردستاني» دعوات أوجلان إلى التهدئة وإلقاء السلاح وإفساح المجال للحوار بين قياداتهم السياسية والحكومة. القصد، أن تجدد المواجهات بين الأكراد والدولة التركية قد يعيد صياغة خريطة التوازنات السياسية من جهة ويزيد من سخونة المشهد التشريعي المقرر انطلاقه في حزيران (يونيو) المقبل، من جانب آخر. كما أن المواجهات الدائرة بين الجيش التركي والمسلحين الأكراد تكشف من جانب ثالث أن ثمة انقسامات سواء لجهة اتفاق الأكراد على تمرير التسوية السياسية أو حتى داخل أروقة النظام السياسي. أيضاً تبدو الهوة سحيقة بين الطرفين، إذ إن نتاج النقاشات الدائرة حول نقاط الخلاف والتسوية، وفي مقدمها الهوية الكردية، والمساواة الكلية في المواطنة، والحرية السياسية، وفتح طريق المشاركة في النظام لم تتبلور بعد، وتبقى مرهونة بإلقاء السلاح. في المقابل، فإن ثمة إصلاحات تبنتها تركيا منذ عام 2013 باتجاه تعزيز حقوق الأكراد في استخدام لغتهم وحق إطلاق أسماء كردية على قراهم ومدنهم، تظل عند حدها الأدنى، وانعكاساتها على تسوية الأزمة تبقى محدودة لاعتبارات عدة؛ أولها أزمة الثقة بين الطرفين، والتباطؤ في تنفيذ تعهدات حكومية سابقة، وهو الأمر الذي شكل عنصراً مهماً في تغذية الشكوك لدى الأقلية الكردية، والتي تصاعدت لدرجة لم تعد فكرة الوعود البراقة أو الاحتشاد الداخلي قادرة على معالجتها. لذلك تظل طموحات أردوغان السياسية مجمدة، وقدرته على تسوية الأزمة الكردية أو على الأقل تهدئة خواطر الأكراد هي أيضاً محل خلاف بالنظر إلى تصاعد القضايا الخلافية، واتساع الرتق مع المؤسسة العسكرية التي تصر على الدخول في مواجهة شاملة مع المسلحين الأكراد. كما أن أوجلان لم يعد بمقدوره السيطرة على القرار الكردي، إذ إن قطاعاً معتبراً من الأكراد سئم وعود الرئيس الطامع إلى استعادة دولة الخلافة أو على الأقل أن يكون رجل الإقليم الكبير.