يقول الراحل إدواردو غاليانو في كتابه (كلمات متجولة): "بحث خابيير فيلافاني بلا جدوى عن الكلمة التي انزلقت فيما هو على وشك أن يتفوه بها. كانت على حافة لسانه تماما.أين ذهبت؟. هل هناك مكان لجميع الكلمات التي لا تريد أن تمكث؟ هل هناك مملكة كلمات ضائعة؟ تلك الكلمات التي تهرب، أين تكمن منتظرة؟" ولا أراني الآن إلا مشاركاً غاليانو هذه التساؤلات فأقول: "أين تهرب مني الكلمات التي أنوي قولها عن هذا الفنان العظيم؟". حسنا لدي حيلة لذلك سأستعين بحديث الروائية إيزابيل الليندي التي سبق أن ترجمت مقدمتها لكتاب غاليانو الشهير (الشرايين المفتوحة لأميركا اللاتينية). تقول الليندي في عرض موجز لسيرته: "أراد غاليانو - ككل رجال بلده - أن يصبح لاعب كرة قدم، كما أراد أن يصبح قديساً، لكن آل به المآل - كما اتضح - إلى ارتكاب معظم الخطايا المميتة، كما اعترف ذات مرة: "أنا لم أقتل أحداً مطلقاً، هذه حقيقة، ولكن كان لنقص الشجاعة أو الوقت، ولم يكن لنقص الرغبة ". عمل لمجلة سياسية أسبوعية (مارشا)، وفي الثامنة والعشرين من عمره أصبح رئيس تحرير صحيفة مهمة في الأوروغواي (إيبوكا). كتب العروق المفتوحة لأميركا اللاتينية في ثلاثة أشهر في آخر تسعين ليلة من عام 1970م، بينما كان يعمل خلال النهار في الجامعة محررا للكتب والمجلات والنشرات الإخبارية ". ثم تكمل: "حدث الانقلاب في منتصف عام 1973م، وقد كان معتقلا حينها، وبعد ذلك بقليل نفي إلى الأرجنتين، حيث أسس مجلة (أزمة). ولكن بحلول عام 1976م حدث انقلاب عسكري أيضا في الأرجنتين وبدأت "الحرب القذرة" ضد المثقفين واليساريين والصحافيين والفنانين. بدأ غاليانو منفى آخر، وهذه المرة في إسبانيا مع زوجته هيلينا فيلاجرا. كتب في إسبانيا "أيام وليالي الحب والحرب". كتاب جميل عن الذاكرة. وبدأ بعد ذلك بقليل نوع من التحاور مع روح أميركا في "ذاكرة النار". اللوحة الجصية الهائلة لتاريخ أميركا اللاتينية منذ عصر ما قبل الكولومبية وحتى الصقيع الحالي."تخيلت أن أميركا كانت امرأة وكانت تقول في أذني أسرارها، وأعمال الحب والعنف التي كونتها". عمل على أجزائه الثلاثة لثماني سنوات يكتبه بيده. "أنا لست مهتما بشكل خاص في المحافظة على الوقت: أفضل أن استمتع به ". أخيرا، في عام 1985م بعد أن هزم الاستفتاء الديكتاتورية العسكرية في الأوروغواي.أصبح غاليانو قادرا على العودة إلى بلده". لا يمكن لأحد يتوقف أمام رحيل كاتب عملاق كهذا ينوي رثاءه سوى أن يرثيه بالكتابة نفسها، العمل المحبب له بالرغم من أنه يقول:" لا أكتب إلا حينما (تهرشني) يدي"، لذا أظن أن كاتب (هرشته) يده حين مات هذا الفاتن. هذا الجميل الذي كما وصفه أحدهم مرة كالطائر الذي يهبط مسرعا من الجو ليلتقط شيئا لا نراه، فهو الذي استلهم أجمل من كتاباته من أشياء اعتيادية وهامشية بالنسبة لغيره، من هدف جميل، من صورة فوتوغرافية، من رسالة، لا بل تجاوز ذلك ليبتكر طريقة إبداعية في كتابة التاريخ فقد كتب تاريخ أميركا اللاتينية في (ذاكرة النار) وتاريخ كأس العالم في (كرة القدم بين الشمس والظل) فحول المؤرخ إلى فنان ينتقي ويشكل ويبدع ما يريد، اقترح تقويما كونيا للحياة في (أبناء الأيام) سرد فيه الأيام من الأول من يناير حتى الحادي والثلاثين من ديسمبر، وهكذا ينتقل بنا في كل كتاب بفكرة إبداعية جديدة ويكسر كل القوالب والأنماط السابقة ويفرد جناحيه بكل قوته ويحلق وحيدا ومنفردا في فضائه الخاص. فهو ليس قاصا ولا روائيا ولا مسرحيا ولا سياسيا ولكن كما تصفه الليندي بقولها:"عمله خليط من التفاصيل الدقيقة والقناعة السياسية والذائقة الشعرية والقصص الجميلة" ولكن كيف غاليانو إلى هذا وجمع كل هذه الخبرة، تقول الليندي: "لقد ذرع أميركا اللاتينية ذهابا وإيابا يستمع إلى أصوات الفقراء والمظلومين. إضافة إلى أصوات القادة والمثقفين. عاش مع الهنود والفلاحين والأحزاب والجنود والفنانين والخارجين عن القانون، تحدث مع الزعماء والطغاة والضحايا والكهنة والأبطال وقطاع الطرق والأمهات اليائسات والعاهرات المريضات. لسع من الأفاعي وعانى من الحمى الاستوائية ومشى في الغابة ونجا من أزمة قلبية حادة. اضطهد من الأنظمة القمعية ومن الإرهابيين المتعصبين. عارض الديكتاتورية العسكرية وكل أشكال الوحشية والاستغلال، وخاض مغامرات لا تصدق للدفاع عن حقوق الإنسان. يمتلك الكثير من المعرفة المباشرة عن أميركا اللاتينية أكثر من أي شخص يمكن أن يخطر في بالي، واستخدم هذه المعرفة ليخبر العالم عن أحلامه وصحواته، وآمال وإخفاقات الناس. مغامر بموهبته الإبداعية في الكتابة وقلب رحيم وحس فكاهي ناعم". وتضيف الليندي: "هناك قوة غامضة في سرد قصص غاليانو. يستخدم حرفته ليغزو خصوصية عقل القارئ. ليحثه على أن يقرأ ويستمر في القراءة إلى النهاية، ليستسلم لسحر كتابته وسلطة مثاليته". إذن هو ليس ممتعا لنا نحن القراء فحسب بل هو كذلك حتى بالنسبة لأقرانه من الأدباء العالميين. بل حتى على المستوى الشخصي - كما وصفته الليندي - كذلك أيضا: "ذات مرة انقطعت بنا السبل معا في فندق في أحد شواطئ كوبا بلا وسائل نقل ولا مكيفات وسلاني لعدة أيام بقصصه المدهشة. هذه الموهبة الجبارة في سرد القصص هي ما جعلت العروق المفتوحة لأميركا اللاتينية سهل القراءة كرواية قرصان، كما وصفه ذات مرة. حتى لمن ليس لديه معرفة خاصة بالمسائل السياسية والاقتصادية". تتجاوز نصوص غاليانو المتعة لتصبح نماذج في ذهن الكاتب والقارئ يمكن الاستشهاد بها، ففي نص "العجوز والرسائل" يمكن التعبير عن سلطة الأدب والكلمة المكتوبة، وفي نص "لغة الفن" يمكن التعبير عن مجازية الفن ودهشته، وفي نص "الحصان والأطفال" يمكن التعبير عن قدرة الفن وتأثيره معرفيا بمتلقيه، وهكذا قدرة كبيرة من المجاز والخيال التي تشعر أن غاليانو يدربك عليها شيئا فشيئا. علاوة على كل ذلك ظل غاليانو طوال حياته مقاوما للاستعمار واستغلال الشعوب ومناهضا للاستبداد والديكتاتورية في بلاده وبلدان أميركا اللاتينية كافة، إلى أن مات.. مات على الطريقة التي يفضلها كما قال ذات مرة: "إنه لجدير بالاهتمام أن تموت من أجل الأشياء التي بدونها ليس من الجدير بالاهتمام أن تعيش!".