تزامن التقدم في المفاوضات بين إيران والدول الست حول البرنامج الإيراني النووي مع معالم الاعتزاز الوطني الإيراني بما أحرزه المفاوض الإيراني في هذا الميدان. لقد عاد الوفد المفاوض إلى بلده وفي يده إنجازان: الأول، يتعلق بالمصالح الإيرانية الملموسة فتم التوافق على استمرار البرنامج النووي السلمي الإيراني، والتمهيد لرفع العقوبات الاقتصادية والسياسية عن إيران. الثاني، هو مراعاة الندية في التعامل بين الوفد الإيراني ووفود الدول الست. إضافة إلى ذلك فقد رافقت المفاوضات إيحاءات وإيماءات تدل على تطرق المفاوضات والمداولات التي رافقتها إلى قضايا تمس مصالح المنطقة ككل، أي الدول العربية والخليجية بصورة خاصة. وجرت على هامش المفاوضات مناقشات ومداولات تناولت العلاقة بين ضمان تطبيق البرنامج النووي السلمي في إيران، من جهة، والنظرة العامة إلى أوضاع الخليج ودور الدول المطلة عليه والتي لها مصالح حيوية فيه. وتطرقت هذه المداولات إلى هوية الخليج: هل هو منطقة عربية - إيرانية مشتركة؟ هل هو «خليج فارسي»، كما تصر إيران على تسميته؟ أم أنه «الخليج» فحسب؟ البحث في التسميات تجاوز الدلالات اللفظية إلى المعاني الاستراتيجية. فهناك حنين صريح حيناً ومكتوم أحياناً إلى إحياء دور إيران «كشرطي الخليج» - الذي شابته مغالاة واسعة. ولا يفوت الإيرانيين المتحمسين لإحياء هذا الدور الأخير، أن من يمارس دور شرطي الخليج اليوم قادر ربما على ممارسة دور شرطي المنطقة بأسرها. في كافة الحالات يترافق هذا الجدل مع نزوع إلى اكتساب النفوذ الإقليمي والمكانة الدولية السامية. إن التطلع إلى احتلال هذه المكانة هو أمر مشروع في السياسة الدولية، خاصة إذا كان العالم يبحر في حال السيولة الفائقة. وتحتاج الدولة التي تطمح للوصول إلى مقام الزعامة الإقليمية أو الدولية إلى مزيج من القوة الفعلية وهي غالباً القوة العسكرية، والهيبة، كما يقول مؤرخ الديبلوماسية الشهير هارولد نيكولسون. وينقسم الذين يتطلعون إلى إيصال بلادهم إلى هذا المقام إلى فريقين: واحد يفضل أن تكون لبلاده الهيبة المستندة إلى القوة، وآخر يؤثر أن تمتلك بلاده القوة المستندة إلى الهيبة. الأول، يعتقد أنه لا بد لبلده من أن يشق طريقه إلى الزعامة الدولية عبر اقتناء السلاح المناسب، والثاني، يعتقد أن بلده قادر على تعزيز مكانته الدولية عبر تنمية طاقاته المعنوية والسلمية. ولقد تذكرنا قبل أيام قليلة عندما ودع العالم بخشوع لي كوان يو، باني نهضة سنغافوره أن المكانة المستمدة من الإنجازات المجلية في حقل البناء والتقدم أمر ممكن. تدل التجارب العالمية والإقليمية على أن الفريق الأول من الذين يرجحون القوة طريقاً للزعامة الدولية هم، حتى الآن، الأقوى شأناً في السياسة الدولية. ويعتبر صنع القنبلة اليوم مؤشراً رئيسياً إلى مكانة الدولة في المجتمع الدولي، وحداً فاصلاً بين الدول صاحبة النفوذ و «الوجاهة» وبين الدول والأمم التي لم تبلغ هذا المقام في التراتبية الدولية. والعلاقة بين السلاح والمكانة هي مقوم راسخ في التاريخ. ففي التاريخ العسكري الأوروبي احتدم سباق التسلح خلال القرن الخامس عشر بين القوى القارية الرئيسية، مثل فرنسا وانكلترا والسويد والبرتغال. وكما يعتبر اقتناء القنبلة الذرية اليوم دليلاً على المكانة بين الأمم والشعوب، كان اقتناء السلاح الأكبر حجماً ووزناً آنذاك مؤشراً إلى مكانة الدول ومسوغاً لمشاريعها التوسعية. ولبث الأمر على هذه الحال حتى اكتشف قادة تلك الدول بعد تجارب قاسية أن أحجام الأسلحة وأوزانها شكلت عبئاً على الجيوش وسبباً لخسارتها الحروب ولإصابة رعاياها بالأضرار الكثيرة. ليس هذا فحسب، بل اكتشفوا أيضاً أنه هناك علاقة طردية بين حجم وأوزان الأسلحة وعلو مقام الدولة التي تملكها بين الدول، وأنه من الأفضل أن يتجهوا إلى استبدالها بأسلحة أقل حجماً ووزناً. يقابل تلك الاكتشافات القديمة اكتشافات حديثة تقول أن صعود سلم الزعامة الدولية والتغلب على المنافسين قد يكونان أقل كلفة إذا ما لجأ الحاكم إلى «القوة الناعمة» لتحقيق أهدافه. هذا ما يقوله أميركيون عندما يقارنون بين ما أنجزته بلادهم عن طريق هذه القوة وبين ما أنجزته أو بالأحرى ما عجزت عن إنجازه عن طريق القوة الخشنة أو العسكرية. وهذا ما يقوله أوروبيون عند التبصر بحقيقة الدور الاوروبي الذي يضطلع به الاتحاد على الصعيدين القاري والدولي. في إيران يبدو أن الصوت الأعلى في السياسة الإيرانية الإقليمية لا زال صوت الذين يعتقدون أن مكانة إيران الدولية مرهونة بالسلاح الذي تمتلكه، وباعتماد أساليب التدخل العسكري في دول المنطقة المجاورة وليس بالطاقات المعنوية والاقتصادية والجيوسياسية التي تمتلكها. ومن المؤكد أنه هناك الكثير من الإيرانيين الذين يعتقدون أن بلادهم تستطيع أن تحتل مكانة مرموقة في منطقة الشرق الأوسط وفي المجتمع الدولي عن طريق التعاون مع الجيران العرب والأتراك والباكستانيين والأفغانيين. هذا الطريق هو الأجدى لجهة الحفاظ على مصالح إيران وهو الطريق لتحسن ملموس في الأوضاع الاقتصادية والمعيشية الإيرانية. هذا التحسن إذا استمر وتثبت يوفر جواً أفضل للإصلاح السياسي الذي وعد به الرئيس الإيراني. فهذا الإصلاح الداخلي يحتاج عادة إلى مناخ جواري يواكبه ويتيح للحكام في البلد المعني مثل إيران الانكباب على ترسيخه وتوفير كافة الشروط الضرورية لنجاحه. من قرأ التصريحات المسرفة في معاداتها للعرب ولأمانيهم الوطنية التي أطلقها علي يونسي، مستشار الرئيس الإيراني الإصلاحي، يدرك أن السلطة العليا في طهران لا تزال في يد صقور السياسة الإيرانية الذين يعتقدون أن مكانة إيران الدولية سوف ترتفع بمقدار ما تمتلك من وسائل القوة وبمقدار ما توسع نفوذها الإقليمي وسيطرتها على دول الجوار العربي تحديداً. ومن يتابع سلوك حلفاء طهران المحليين في العراق واليمن يزداد اقتناعه بصعوبة التبدل في مواقف الدولة الإيرانية تجاه العلاقات مع الدول العربية. هذه المواقف تزيد المرء اقتناعاً بالتقييم الذي يربط بينها وبين عاملين مهمين يثيران عادة سعي الدول إلى تعزيز مقامها ومكانتها على حساب الدول الأخرى. العامل الأول، هو عامل الخسائر في المعارك والحروب التاريخية. في هذا السياق فإنه من المستطاع الربط، مثلاً، بين هزيمة ألمانيا خلال الحرب العالمية والعقوبات التي نفذت بحقها، وبين صعود الهتلرية من جهة أخرى ومشاريعها التوسعية على الصعيدين القاري والعالمي ودعوتها للوصول بألمانيا إلى ذروة المجتمع الدولي. وكذلك من المستطاع الربط بين المعارك الحربية بين الصين والهند خلال الستينات، وبين سعي الهند إلى امتلاك القنبلة الذرية. كما أنه من المستطاع الربط بين الحرب الهندية الباكستانية خلال السبعينات وبين اتجاه باكستان هي أيضاً إلى امتلاك القنبلة الذرية. وفي الحالتين يمكن الربط بين سعي البلدين إلى امتلاك القنبلة الذرية، من جهة، وبين سعي البلدين إلى امتلاك القنبلة الذرية كوســـيلة من وسائل التعويض المعنوي عن خسارة الهند المواجهات الحربية مع الصين، وخسارة باكستان الحربَ ومعها وحدتها الترابية في حربها مع الهند. وكما تدل هذه الأمثلة على الصلة بين الخسائر التي تعرضت لها بعض الدول في الحروب والمواجهات التاريخية الكبرى، وبين سعي هذه الدول إلى اكتساب مكانة متميزة في التراتبية الدولية وإلى بناء الأدوات العسكرية الكـــفيلة بتحــقيق هذه الغـــاية. ويمكن للمرء أن يلمــس مثل هذه الصلة في تاريخ إيران القديم والحديث. فسقوط الامبراطورية الفارسية وصعود الدولة العربية على أنقاضها يبقيان عاملاً يؤثر على العلاقات العربية-الإيرانية. كذلك فإن نتائج حرب العراق-إيران التي جاءت لمصلحة العراق كان لها الأثر نفسه على القيادة الإيرانية وعلى تطلعها إلى احتلال المقام الأول في النظام الإقليمي الموسع الذي يضمها مع الدول العربية وتركيا. العامل الثاني، هو الفراغ السياسي والأمني الذي يسود المنطقة العربية، والذي برزت معالمه قبل أحداث «الربيع العربي». إن فراغ القوة يشكل حافزاً للهيمنة يبقى، كما قال هانز مورغينثاو، عالم السياسة الدولية في كتابه الشهير «السياسة بين الأمم: السعي إلى القوة والسلم»، «ولسوف يبقى خطراً كامناً على الدول الحديثة في آسيا وافريقيا...» ولقد ذكر مورغينثاو في معرض تفسيره لسلوك القوى الكبرى الامبريالية، ولكننا نستطيع أن نجد في كلامه هذا تفسيراً للقوى الاقليمية المتوسطة، مثل إيران، التي تطمح إلى تعزيز مكانتها الدولية عبر بسط سيطرتها على دول الإقليم العربي. بين هذين العاملين، يبقى الرهان على العامل الثاني هو الأقوى والأهم وهو الذي يشكل الحافز الأكبر للسياسة الإيرانية الإقليمية التي تستند إلى القوة بالدرجة الأولى. ولكن من واجب الذين يحرصون على العرب وعلى الإيرانيين أن يتنبهوا إلى خطأ هذه الحسابات. فالتدخل الإيراني في المنطقة سوف يدفع الدول العربية، عن اقتناع أو بحكم الضرورة، إلى تنسيق قواها وإلى التحرك الموحد ضد طهران وضد حلفائها في المنطقة. ولسوف يتحرك هذا المسار إلى مفارقة كبيرة، إذ إن محاولة الاستفادة من الفراغ في المنطقة العربية سوف يتحول هو في حد ذاته إلى أهم سبب يدفع دولها إلى التعاون، أي إلى حرمان طهران من فرصة الوصول إلى قمة النظام الإقليمي على ظهر الدول العربية. * كاتب لبناني