×
محافظة المنطقة الشرقية

مديرو «مكاتب التعليم» يبحثون تعزيز القيم المدرسية بالشرقية

صورة الخبر

< ذات مساء شتائي ممطر تآمر عليَّ تعبي وعطشي، وساقاني سوقاً لمقهى صغير في السوق التي كنت أجول فيها بلا غاية محددة ولا دافع عدا النهم. جلت بعيني في المكان الذي كان على طراز ريفي غربي مطعم بالمعاصر، وهو ما خلق من هذا النشاز مزاوجة فريدة، اخترت مجلسي في زاوية مقابل المدخل، واتجهت إليه وأنا أرسل ابتسامة مداهنة للنادلة الذابلة التي كان بادياً عليها الرغبة في عدم الإتيان بأي حركة. جلست بعد أن وضعت الأكياس الثلاثة التي كنت أحمل بجوار مقعدي، وأخذت أتلهى بتأمل الصور المنثورة بسخاء على الجدران لمطربين بادوا قبل أن أولد، ورحت أحاول أن أركب الصوت الهامي على سمعي على صورة أحدهم، بينما أنتظر النادلة لتتكرم بالمجيء لأخذ طلبي. زاحفة أتت ووقفت قريباً من طاولتي ثم بوجه خالٍ من أي تعبير مدت لي قائمة طعام وأخرى أصغر وأرشق للمشروبات. شكرتها من دون أن أتناولها قلت لها إني اخترت بلا حاجة لدراسة الخيارات. شاي أسود لو تكرمت وقنينة ماء بحرارة الغرفة، فأومأت برأسها وتحركت مبتعدة. الانتظار يرخي الوقت ويرهله وهاتفي النقال كان قد لفظ آخر أنفاسه قبل ساعة من الزمان، فلم أجد ما أتشاغل به إلا كتاباً كنت اشتريته قبل قليل، أخرجته وقرأت بضع صفحات بلا قراءة، ذهني كان يشرد من الجمل المطبوعة إلى الجمل الموسيقية، من دون إذن مني كل حين. في اللحظة التي أحضرت النادلة طلبي كان رجلاً جسيماً بطيناً، يحمل حقيبة سوداء ضخمة على ظهره، يدلف إلى المكان، تابعته وهو ينزل حقيبته، ويضعها على كرسي بلا مسند بمحاذاة المقعد الذي اختاره لجلوسه. شربت كوب ماء ثم حركت السكر في الشاي وأنا أرمقه والنادلة التي كانت واقفة حينها بقربه تسجل طلبه. لما انصرفت عنه جال بنظرة سريعة لا مبالية في المكان حتى وصل بعينيه إليَّ، نظر إلى كشيء لا يتوقع وجودة في مثل هذا المكان، ثم رمى لي ابتسامة مرتبكة وبعدها انحنى ينظر لنقطة محددة تقع بالنسبة إليَّ خلف حقيبته بعد أن وضع يديه على ركبتيه. بعد رشفتين من الشاي عدت للغوص بين دفتي كتابي، وخرجت منه ثم عدت مراراً وتكراراً بلا فائدة تذكر. كانت عيني من حين لآخر تقع على الرجل الذي لم يتجرع رشفة من مشروبة الذهبي الفوار الذي كان موضوعاً على طاولته، ولم يرفع رأسه منذ أطرقه. بدأت نفسي اللوامة تقرعني لعدم قدرتي على الاستغراق في القراءة مثله، زادت في تقريعها علي وأكثرت حتى رفعت راية الاستسلام ورميت لها استقالتي من محاولاتي العقيمة. أملى عليَّ مللي بعد قليل أمراً باستخراج هاتفي من حقيبتي والذهاب لاستجداء شحنات طاقة له من لدن الندل، فأطعت ونهضت من مقعدي متوجهة لمكتب الاستقبال الواقع في صدر المقهى. مررت وأنا في طريقي إلى هناك بمحاذاة الرجل الراكع كالخاشع منذ قعد، فاكتشفت أنه غارق في نوم عميق، أشفقت بالنتيجة قليلاً على ذاتي التي كانت الغيرة قد ضربت أطنابها فيها منه بلا داع، وأشفقت أكثر قليلاً عليه، عدت لمقعدي بعد أن أتممت المهمة التي لأجلها قمت وأخذت أتأمل وضعية النوم الجنينية التي اتخذها هذا العملاق، وراح، عقلي من دون طلب مني يبتكر أسباباً جديرة بمنام بهذا العمق في هذا الصخب. رن هاتفه في تلك اللحظة فانتفض كالممسوس واختطفه بسرعة وارتباك من جيب بنطاله، وبدلا من أن يرتفع مع يده ويصل لمكان وسط بين أذنه وفمه، طار بحركة بهلوانية مباغتة وسقط بعيداً عنه على الأرض، نهض والتقطه أجاب محدثه وهو واقف بجملتين أو ثلاث ثم أعاد هاتفه لجيبه، وهو يختطف حقيبته وخرج مسرعاً، النادلة الذاوية أفاقت وامتلأت فجاءة بطاقةٍ هائلة زادتها طولاً وعرضاً، وبلا تردد قفزت من مقعدها وركضت خلفه بسرعة الرجل الخارق الذي لا يرى إلا في الأفلام أو الأحلام. عاد الرجل مخفوراً بعد برهة ودفع لهم ثمن رقاده الذي كانوا طبعوه له على وريقة وانصرف. التفتت إليَّ النادلة بوجه عليه بقية أثر لانتصار، أشرت لها بأني أريد الحساب فأومأت برأسها للرجل خلف الطاولة مشيرة لمكاني، طبع لها فاتورة أتتني بها بهيئتها العتيقة الهامدة، ووضعتها على طاولتي بكسلها المزمن الذي عاودها وانصرفت، حركاتها اللزجة ووجهها الذي عاد منطفئاً حرض في داخلي رغبة شديدة الإغراء لمناكفتها بفعل ما فعله الرجل من قبل بها، وبسرعة خاطفة رسمت خطة للهروب، خطة شديدة الإحكام أوصلتني لداري، وهي تركض لاهثة خلفي في خيالي، لكن لإدراكي أن انشغالي بالهروب سيحرمني حتما من التمتع برؤية ملامحها وهي تطارني لتعتقلني امتنعت عن التنفيذ. أصابتني نوبة ضحك هستيريه للتصور الشيطاني الذي لم يكن ليتحقق، وأنا أتناول حقيبتي لأنقدها درهيماتها، ضحكي الذي لم أتمكن من كبح جماحه والذي أفلت من عقال سلطتي وتفجر صاخباً مجلجلاً سرت عدواه إليها ثم للمحاسب المزروع خلف المنضدة، غرقنا جميعاً في الضحك. من هناك خرجت بلا مللي الذي دخل معي وجالسني طوال مقامي هناك، انتبهت لما ابتعدت إلى أني نسيت في المقهى هاتفي فلم يزعجني هذا كثيراً، وبينما أنا أستدير عائدة تذكرت ما أضحكني فأضحكني ثانية، حينها كنت أسير وسط أُناس محصنين بالضجر من عدوى جذلي. راحوا يرقبونني بفضول ممزوج بنوع من الشفقة.