لو بحثنا في فن وأدب الشعر والرواية السعودية فإننا سنجد كثيرا من التطرق لذكر القطارات. قطارات تكفي لكل المسافرين في العالم حتى يخيل لمن لا يعرف المملكة على طبيعتها واكتفى فقط بقراءة أدبها ورواياتها فإنه يعتقد أنه يمكنه أن يسافر بواسطة القطار من الطوال جنوبا حتى القطيف شرقا، ومن ضبا شمالا حتى شرورة جنوبا، وأنه بدلا من أن يستخدم سيارته للسفر من الرياض إلى المجمعة فإنه يمكنه استقلال قطار، ويمكنه أيضا أن يختار الرحلة الأخيرة يقرأ فيها صحيفة وكتابا من خارج قائمة الأكثر مبيعا ويستمع لأغنيته الأثيرة. قرأت للدكتورة خيرية السقاف في منشورها مؤخرا على الزميلة صحيفة الجزيرة: تقول: "مدى عينيه لا يتبع القطار.. القطار يلتهم البعد..! محض استشراف، ويأتي البعيد.."، حتى تقول في النهاية: "كتف الوقت يهتز من فرط العبء..! لمآل الدهشة..! كف القطار تتخضب بريحان المحطة"، ورغم أنه لا توجد لدينا قطارات ولا محطات تتخضب فيها القطارات بالريحان أو حتى بالتراب إلا أن الدكتورة خيرية في حالتها الشعرية كانت تتخيل قطارا يتخضب كفه في ريحان محطة القطار، وأجزم أنها مثلنا جميعا واقعة تحت تأثير كاريزما القطار. من يتصفح صور كورنيش جدة القديمة سيجد أن من أشهر المنتجعات التي كانت على ساحله هو "منتجع القطار" ولا أعلم ما علاقة القطار بالبحر، ولماذا المستثمر اختار هذا الاسم، هل هو واقع مثلنا تحت تأثير كاريزما القطار، بحيث لم يجد اسما أكثر تأثيرا من القطار الذي لم نركبه كما ينبغي بعد؟ لا تفسير منطقيا لمستثمر يسمي منتجعه على البحر بالقطار سوى أنه واقع تحت تأثير وسطوة كاريزما القطار، كما وقع فيها الفنان راشد الماجد في أغنيته الأشهر عام 1996 من كلمات البدر بن عبدالمحسن التي يقول فيها: "القطار فاتنا والمسافر راح"، ولم تكن شهرة الأغنية تعود إلى شهرة كاتبها البدر بن عبدالمحسن، ولا لعبقرية ملحنها عبدالرب إدريس، بل السبب الرئيس هو أننا لم نركب القطار بعد، ما زال القطار منذ ذلك الوقت وحتى الآن شيئا لم نعتده، غاب عنا حتى أصبح أشبه بالرحيل الذي يضفي هالة كاريزما لا يمكن مقاومتها ولو كانت كلمات الأغنية تقول: "الطائرة فاتتنا والمسافر راح" لما حققت كل هذه الشهرة، فالطائرة أصبحت شيئا اعتياديا في حياتنا وكثيرا ما نرى الرحلات وهي تفوتنا دون أن نجد مقعدا شاغرا على متنها، ومن ثم نضطر إلى السفر بالسيارة ونتمنى لو أننا نستقل القطار السريع، ولكنه مجرد حلم لم يتحقق حتى الآن، لذلك نتمنى أن يأتي قطار نسافر عليه. نريد أن نركض خلفه عند بداية تحركه ومن ثم نقفز على عتبة بابه نلوح بأيدينا لمودعينا. "القطار فاتني" أو "القطار فاتك"، تقال أو يقولها من فاتته فرصة سانحة، رغم أننا لم نركب قطارا من قبل، والأكثر حظا بيننا هو من استقل قطار الرياض- الدمام اليتيم، وأتساءل: لماذا لا نقول لمن فاتته فرصة سانحة: "الطائرة فاتتك"، إذ في الواقع لا يوجد سعودي لم تفته طائرة من قبل إلا إذا كان يعرف "واسطة" كبيرة في خطوطنا الجوية، ولذلك من الأولى أن نستخدم كلمة الطائرة بدلا من القطار عند مناسبة فوات الفرصة لأنها ستعود بنا إلى تجربة فوات رحلة الطائرة المريرة التي حتما أننا تذوقنا مرها، والغريب في الأمر أن عبارة "القطار فاتنا" - مع أنه لم يأت كي يفوتنا - هي الأكثر وقعا على أنفسنا رغم أننا لم نخض هذه التجربة.. إنها كاريزما الغياب. كاريزما القطارات التي لا تنظر إلى الخلف وهي ترحل.. الكاريزما التي يجب على المؤسسة العامة للخطوط الحديدية أن تخلصنا منها، ففي تنفيذ خطتها الاستراتيجية للتوسعة الممتدة حتى عام 2040 للميلاد داء لهذه الكاريزما أكثر مما هو دواء، ولذلك يجب عليها المسارعة في تنفيذ مشروع قطار الشمال الجنوب ومشروع قطار دول مجلس التعاون الخليجي، ومشروع الجسر البري، ومشروع قطار الحرمين، ففي سرعة تنفيذها العلاج للشعراء الذين يهذون بالقطارات الراحلة والروائيين الذين لا تهنأ لهم الرواية ما لم يركب أبطالها قطارات تأخذهم بعيدا عمن يحبونهم. في سرعة تنفيذ مشاريع القطار والعمل على توسعتها لتشمل كل مدن المملكة والأرياف علاج للمجتمع السعودي المصاب بمرض "كاريزما القطار". نريد من المؤسسة العامة للخطوط الحديدية أن تختصر هذا الزمن الطويل حتى عام 2040 إلى زمن أبكر بكثير، أن تنفذ المشاريع في زمن أقل، فالوطن أصبح بحاجة إلى القطار أكثر من أي وقت مضى حتى شعرائنا وفنانينا وروائيينا ملوا وهم يتطرقون إلى قطارات لم تأت بعد.