يعد عنوان كتاب «حكايات الحب الأول» (الدار المصرية اللبنانية) للروائي المصري عمار علي حسن، خادعاً، فهو يوحي بأننا أمام حكايات غرامية في فترة المراهقة بين شباب وفتيات، أو على أكثر تقدير نوع من الذكريات لتفاصيل الحب الأول في حياة الكاتب. لكننا مع الصفحات الأولى من العمل نكتشف أننا أمام عدد من المواقف والأحوال الصوفية، فكل قصة أو حكاية هي حال أوقفت عليه الحبيبة حبيبها منذ فارقته، ومن ثم فهو لا يحيد عنه ولا يفارقه. ولا يمكن القول إن الحكايات التي تضمنها الكتاب هي محض قصص أو حتى نصوص شعرية، لكنها نوع مختلف من الكتابة يرصد حالات متباينة للوعة الفراق بين المحب ومحبوبته. في هذا الكتاب؛ نستمتع بحكمة المتصوفة وفلسفة المجربين وعذابات الموقوفين على أحوالهم من الوجد والتباريح والتيه، ونستمتع بحكايات محبين لحبيبات لا يذكرون منهن غير وجوه غائبة في ذاكرة عبرها الزمن وتجاوزتها الوقائع والأحوال. هنا، لا نجد قصة حب بالمعنى الحقيقي، ولا حبيبة واضحة الأوصاف أو الاسم، لكننا نرى أنفسنا أمام حضور امرأة تتشكل في صور النساء جميعاً، وحضور لعاشق يتشكل في صور كل العاشقين، وبينهما تاريخ طويل من التوله بنار العشق، تاريخ يصلح أن يكون مسيرة لكل عاشق فارقته حبيبته، ومن ثم فالصور والحكايات تكمل بعضها بعضاً، والوجد يتنقل ويتزايد من موقف إلى آخر، لكنّ الوصال في كل الحالات مفقود، والأمر الوحيد الدائم طيلة نصوص الكتاب هو الحنين إلى ذكرى اللقاء الأول. سعى عمار على حسن لتأكيد أنه يرصد حكايات الحب الأول بين المحبين، لكن المفردات التي استخدمها تفتح أفق النص على نوع آخر من الحب وهو العشق الصوفي، ما يطرح معادلات فنية جديدة للمحبوبة بوصفها المحبوب ذاته. وقد لعبت أول خمسين حكاية من الكتاب على هذا الطرح من خلال فضاء تجريدي تظهر فيه المحبوبة كطيف لتذكر حبيبها بكونها ضحية أو أنه لن يستطيع نسيانها، لكن حضورها يظل كحضور الفتى الذي يستشير شيخه في العشق، وحاله الذي أوقف عليه، وكيف يمكنه الخروج منه، والشيخ يجيبه بما لديه من تجربة واتساع علم (سألني فتى بشفتين قددهما الأسى وعينين تسبحان في دموع ساخنة: متى يموت الأسى؟ وضعتُ يدي على كتفه وأجبته في هدوء: حين نكتشف أن من نحرص على وصاله يحرص على هجرنا). هكذا استخدم عمار علي حسن في حكاياته إيقاعاً يميل إلى التجريد، ولغة تواري أكثر مما تفصح، وحواراً تنقل برشاقة بين شيخ ومريده للحديث عن نوع من الحب لا يكون إلا بالرمز. من هذا المنطلق يمكننا اعتبار «حكايات الحب الأول» واحدة من الأعمال القليلة التي جنحت نحو تأنيث المحبوب لا تذكيره، وأنه على نحو صوفي جديد خاطب وجه الأمومة لا روح الذكورة، ما جعل النص يتمتع بنوع من الشعرية الخالصة في رصد وتفنيد أوجاع العاشق، كأن يقول (حين بكت تساقطت دموعها على روحي فثقبتها، ثم ظهر طائر الحزن وريشه مبتل، ومآقيه يسكنها الظمأ والغضب، تقدم نحوي ومد منقاره وأخذ يملأ كل الحفر التي تراصت أمامه جمراً وندماً ووجعاً وحنيناً). لم يستطع عمار أن يستمر في ما اتفق عليه مع القارئ على التجريد، وسرعان ما لجأ إلى النزول إلى أرض الواقع عبر الربط بين المحبوبة وأجواء الثورة المصرية، راصداً حكايات كان ميدان «التحرير» في قلب القاهرة، مسرح وقوعها، من بينها حكاية الحبيبة التي استشهدت في مدخل الميدان، فظل فتاها عاكفاً على أوراقه وأقلامه وألوانه ساعياً لنسيانها عبر الكتابة والرسم لكن من دون جدوى. ولأن الكاتب لم يكن مندفعاً بالربط بين تأملاته الروحية وما يجري في الواقع من حوله فقد فارق حالة الميدان سريعاً، وعاد من جديد لتأملاته المجردة عن الحب وأحوال المحبين، فمضى الجزء الأول من الحكايات على نحو واضح الإحكام في التجريد والتكثيف واللغة الشفيفية وأفق التأويل المفتوح على أكثر من دلالة، لكن الجزء الثاني ولج بالكاتب إلى الرغبة في تعيين المحبوبة، فمنحها للمرة الأولى اسم «غادة» عبر اللعب بالحروف وحقولها الدلالية على الطريقة الصوفية، ثم سرعان ما قدم شبيهاً لها في نصوص أخرى، مقترباً من تعيينها هي ذاتها، من دون النص على أن هذه حقيقتها، ما جعله يحافظ على الهدف الذي انطلق منه، مستفيداً من محاورات المريدين لشيوخهم، وردود الشيوخ المبهمة الدلالة لمن لا يرتبط بعالمهم؛ (قال لي شيخي: يخلد الحب حين يسكن الألم. فنسيت كل أوجاعي فجأة، وغمرتني سعادة، وطرتُ إلى آخر السماء، وأنا قابض على ألمي، حتى لا يتساقط منى في وجه الريح». لا يمكننا القول إن حكايات عمار علي حسن عما أسماه بالحب الأول هي قصص قصيرة، ولا أنها محض تأملات فكرية أو فلسفية، لكنها أقرب إلى النوع الأدبي الجديد، ذلك النوع الذي طرحه نجيب محفوظ في كتابه «أصداء السيرة الذاتية»، حيث يجمع ما بين التأملات والمحاورات ولطائف الحكمة والخبرة والتصوف، غير منشغل بعقد وحل وتصاعد درامي أو توضيح للمكان والزمان، ما يجعله أدباً يقدم حالة وجدانية وفكرية مباينة لما تقدمه له القصة القصيرة أو حتى ما يعرف بالقصة اللمحة أو القصيرة جداً. وربما كان هذا الاتجاه في الكتابة في حاجة إلى الانتباه وتعزيز العمل عليه كي يتعمق مساره وتتضح جمالياته، وقد تجد القصة القصيرة جداً ضالتها بالتوحد مع هذا النوع من الكتابة لما يوفره من حلول إبداعية، وما يطرحه من قدرة على الخيال وتجريد اللغة والحوار والمشاهد.