قبل خمس سنوات، عقد الناس آمالهم على الحراك في الشارع العربي، علّه يفضي إلى تحوّلات تفسح الطريق لاتجاه جديد في الاستدامة الاقتصادية والبيئية. حينذاك لم تكن الآفاق واعدة في كلا المجالين. لكن ما حصل اليوم أن الوضع أصبح غير مستقرّ في أفضل حالاته، وفي الغالب أقرب إلى الفوضى والتفكك الكياني. توقع الناس أن يؤدي ما اصطُلح على تسميته «الربيع العربي» إلى إصلاحات تضع حداً للفساد الإداري وسوء إدارة الموارد الطبيعية. كما توقعوا مجيء حكومات أكثر تمثيلاً، تفرض إرادة سياسية أقوى لتعزيز الإدارة المستدامة للموارد البيئية، من خلال سياسات عامة فعالة، بحيث تتاح للناس المتأثرين وللمجتمع المدني فرصة أكبر للمشاركة في صنع القرارات السياسية. وانتظر الناس بروز أنماط في الحكم أفضل عموماً، تكون لها تأثيرات واسعة النطاق على الحوكمة البيئية. فاللامساواة والاضطهاد والفقر هي في صلب الدمار البيئي، وكجزء من التحول، كان من المأمول أن يصبح المجتمع المدني أكثر حرية وأكثر فاعلية. وها هي المنطقة، بعد خمس سنوات، تتخبط في فوضى عامة. ولكن هل يعني هذا أن يتخلى الناس عن الاندفاع للتغيير؟ رئيس دولة عربية كبرى حذّر مؤخراً في خطاب من أن «التغيير لا يعني التدمير». وقد هلل له الحضور، خصوصاً أن الكلمتين تحملان القافية ذاتها، والجماهير تستسيغ البلاغة اللفظية. لكن ذلك التعليق، وإن يكن صحيحاً كلياً، قد يغطي أجندة خفية لتبرير الاضطهاد. فالاستدامة لا يمكن أن تكون خياراً بين التغيير والحرية مع الفوضى من جهة، والاستقرار مع القمع من جهة أخرى. إذ لا يمكن كسب «الحرب على الإرهاب» ما لم تبدأ الدول حرباً على الفقر والاضطهاد والظلم. ضغوط اجتماعية واقتصادية وبيئية تبنت البلدان العربية نماذج طموحة للنمو الاقتصادي، لكن ذلك جاء على حساب التقدم في قضايا اجتماعية وبيئية. وتستمر أشكال الفقر والبطالة وتهديدات الأمن الغذائي والمائي والتدهور البيئي، التي نجمت عن ذلك، في إلحاق الأذى بالاقتصادات العربية. الأخطاء في أداء الاقتصادات العربية ساهمت في شكل كبير أيضاً في تدهور الأوضاع الاجتماعية. وأدى استمرار الفقر والبطالة إلى تهميش اجتماعي، تزيده تباينات المداخيل. وتسببت التأثيرات التراكمية لهذه الأخطاء في عدم استقرار اجتماعي وسياسي. وتظهر المطالبات بالتغيير في البلدان العربية أن الضغوط الاقتصادية والاجتماعية والبيئية المتعاظمة، وما ينجم عنها من تداعيات على الأمن المعيشي، هي عائق في وجه الاستدامة. لقد دعت التقارير السنوية للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) إلى اعتماد نموذج تنموي متجذر في اقتصاد أخضر. ويرى «أفد» أن توازن التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والاستدامة البيئية يوفر أساساً سليماً لمعالجة نواقص الاقتصادات العربية، من وضع حدّ للفقر والبطالة، إلى بلوغ الأمن الغذائي والمائي والطاقوي، إلى تحقيق توزيع أكثر عدالة للمداخيل. إضافة إلى ذلك، يشدد الاقتصاد الأخضر على كفاءة استخدام الموارد الطبيعية وتوزيعها لتنويع الاقتصاد، مما يوفر حصانة في وجه تقلبات الاقتصاد العالمي. يمكن فهم الضغوط الناجمة عن النماذج التنموية العربية من خلال تفحص المؤشرات. فالفقر ما زال يضرب 65 مليون نسمة في البلدان العربية. وانعدام الأمن الاقتصادي يتفاقم نتيجة الارتفاع المقلق لمعدلات البطالة التي وصلت إلى 15 في المئة بين عموم السكان وبلغت 30 في المئة بين الشباب. وما زالت التباينات الحادة قائمة بين البلدان العربية، وكثيراً ما تخفي أرقام النمو المرتفعة التدهور الحاصل في الرأسمال الطبيعي المتجدد. وقد أظهر تقرير «أفد» عن البصمة البيئية، الذي تم إعداده بالاشتراك مع شبكة البصمة البيئية العالمية، أن العجز بين البصمة البيئية والقدرة البيولوجية في المنطقة العربية هو 50 في المئة. هذا يلقي ظلالاً من الشك على قدرة الاقتصادات العربية على خلق 50 مليون فرصة عمل جديدة يتوقع أن تكون مطلوبة بحلول عام 2020 لاستيعاب الداخلين الجدد إلى سوق العمل، مع بقاء معدلات البطالة الحالية. ما زالت الاستراتيجيات التنموية العربية خاضعة لهيمنة الاستثمارات في المنتجات السلعية الاستخراجية الموجهة لأسواق التصدير. وعلى رغم تحقيق نمو مرتفع في الناتج المحلي الإجمالي، فإن هذا النموذج يجعل الاقتصادات العربية أكثر تعرضاً لتقلبات الأسواق العالمية، ويفشل في خلق فرص عمل وافية. إن انعدام تنوع المداخيل هو سبب رئيسي للضعف الهيكلي في الاقتصادات العربية. تغيير المسار: المياه والغذاء والطاقة يتطلب التحول إلى اقتصاد أخضر مراجعة جوهرية وإعادة تصميم للسياسات العامة، من أجل تحفيز تحولات في أنماط الإنتاج والاستهلاك والشراء والاستثمار. شارفت موارد المياه وضعاً حرجاً في معظم البلدان العربية، غالباً نتيجة سياسات تشجع الاستهلاك المفرط وتتقبل الاستغلال الجائر للموارد الشحيحة. وتتم معالجة أقل من نصف إجمالي مياه الصرف، في حين يعاد استعمال أقل من 40 في المئة من المياه المعالجة. كما أن معدل حصة الفرد من المياه المتوافرة يضع المنطقة العربية بأسرها في فئة الندرة الحادة. ومن بين البلدان العربية الواقعة على ساحل البحر المتوسط، يبقى لبنان وحده خارج هذا التصنيف، لكن قطاعه المائي يعاني من سوء الإدارة. ويفتقر أكثر من 45 مليون نسمة في المنطقة العربية، يشكلون أكثر من 10 في المئة من عدد السكان، إلى مياه نظيفة وخدمات صرف مأمونة. على البلدان العربية التركيز على سياسات تضبط وتنظم الحصول على المياه، وتعزز كفاءة الري والاستهلاك، وتمنع تلوث المياه، وتقيم مناطق محمية حيوية للموارد المائية. ويجب زيادة حجم مياه الصرف المعالجة من نحو 50 في المئة اليوم إلى ما بين 90 و100 في المئة، مع زيادة الجزء الذي يعاد استعماله من 20 في المئة كمعدل اليوم إلى 100 في المئة. ويجب تطوير تكنولوجيات لتحلية المياه محلياً، مع استخدام الطاقة الشمسية. يشكل الأمن الغذائي تهديداً رئيسياً آخر للبلدان العربية. والسبب أساساً إهمال القطاع الزراعي وتخلفه، ما يؤدي إلى ضعف الإنتاجية الزراعية وانخفاض معدلات كفاءة الري التي تبلغ في معظم البلدان العربية نصف المعدل العالمي. وقد وجد تقرير «أفد» لعام 2014 حول الأمن الغذائي أن البلدان العربية تستورد نصف ما تستهلكه من المواد الغذائية الأساسية. وبلغ صافي فاتورة وارداتها الغذائية 56 بليون دولار عام 2011، بما في ذلك 25 بليون دولار للحبوب. على الحكومات العربية إعطاء أولوية للتنمية الريفية الزراعية كهدف استراتيجي للسياسات. ومن شأن تنشيط القطاع الزراعي أن يحسن مستويات المعيشة، ويحد من هجرة الأرياف إلى المدن، ويولد أكثر من عشرة ملايين فرصة عمل. وإضافة إلى ذلك، سيحقق التحول إلى ممارسات زراعية مستدامة وفورات للبلدان العربية تتراوح بين 5 و6 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، أي نحو 100 بليون دولار سنوياً، نتيجة رفع إنتاجية المياه وتحسن الصحة العامة وصون الموارد البيئية. ويفتقر نحو 60 مليون نسمة في البلدان العربية إلى خدمات الطاقة الحديثة والمضمونة، خاصة الكهرباء، ما يحد من فرص تحسين مستويات معيشتهم. وفي الوقت ذاته، تُعتبر بعض البلدان العربية من الأقل كفاءة في الطاقة، وتسجل أعلى استهلاك طاقوي للفرد في العالم. يقترح «أفد» تخصيص استثمارات مستدامة لكفاءة الطاقة ولمشاريع الطاقة المتجددة، من خلال مزيج من المعايير التنظيمية والحوافز الاقتصادية. ومن شأن تخفيض معدل الاستهلاك الفردي للكهرباء في البلدان العربية إلى المعدل العالمي، من خلال تدابير كفاءة الطاقة، أن يحقق وفورات تصل إلى 73 بليون دولار سنوياً. كما أن تخفيض دعم الطاقة بنسبة 25 في المئة يحرر نحو 100 بليون دولار خلال فترة ثلاث سنوات، يمكن تحويلها لتمويل التحول إلى مصادر الطاقة الخضراء. النقل والمدن والتخطيط ركزت سياسات النقل في البلدان العربية على إنشاء الطرق السريعة مع إهمال النقل العام والتخطيط المدني والتنمية الريفية. وأدى انعدام السياسات الفعالة في قطاع النقل إلى شيوع حالات الازدحام المروري وسوء نوعية الهواء في مدن كثيرة، فضلاً عن تدهور الأراضي. هناك حاجة إلى سياسات تعزز النقل العام ومعايير كفاءة وقود السيارات. وقد تبين أن هذه التدخلات تنطوي على كلفة منخفضة نسبياً وتولد أرباحاً اقتصادية واجتماعية وبيئية خلال فترة قصيرة. وإذا اعتُمد هدف تخضير قطاع النقل بنسبة 50 في المئة، عن طريق رفع كفاءة الطاقة وزيادة استعمال النقل العام والسيارات الهجينة (هايبريد)، فسوف يولد وفورات بمقدار 23 بليون دولار سنوياً. وتعاني المدن العربية من أنماط فوضوية في استخدامات الأراضي وكثافة في التطوير العقاري، ما جعل البنى التحتية عاجزة عن تلبية حاجات سكانها. وساهمت الهجرة من الأرياف وارتفاع تكاليف السكن في كثير من المدن في انتشار المناطق العشوائية التي تفتقر إلى الخدمات الأساسية الوافية. من أجل خلق مجتمعات حضرية صحية قادرة على المنافسة اقتصادياً وتوفر لسكانها معيشة عالية الجودة، على الحكومات أن تتبنى أنظمة ملائمة لاستخدامات الأراضي وتطويراً متعدد الاستخدامات. وتعتبر «كودات» البناء الأدوات المؤسساتية الأفعل لتعزيز الممارسات السليمة في قطاع الإنشاء. ويتوقع أن يؤدي دمج اعتبارات كفاءة الطاقة في تصميم الأبنية إلى انخفاض انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون المتوقعة بنحو 29 في المئة خلال عشر سنوات، مع تخفيض الاستهلاك بمقدار 217 بليون كيلوواط ساعة وتحقيق وفورات مقدارها 17.5 بليون دولار سنوياً. وإضافة إلى ذلك، إذا تم إنفاق 100 بليون دولار لتخضير 20 في المئة من مجمل الأبنية القائمة في البلدان العربية خلال السنوات العشر المقبلة بإدخال تعديلات تحسينية، فسوف يخلق ذلك أربعة ملايين فرصة عمل. التحول إلى اقتصاد أخضر التخطيط الاقتصادي السائد في البلدان العربية اليوم ما زال مرتبطاً بنمو قصير الأجل في الناتج المحلي الإجمالي، وبحلول سريعة، متجاهلاً الأسباب الضمنية للفقر واللامساواة والبطالة والتدهور البيئي. هكذا، غالباً ما يفشل هذا النمو في إنتاج تقدم مستدام. الخيار الواضح هو استجابة قائمة على التحول إلى اقتصاد أخضر. ليس على المنطقة أن تختار إما التنمية الاقتصادية وإما العدالة الاجتماعية وإما صحة النظم الإيكولوجية، فالاقتصاد الأخضر مصمم لتحقيق أهداف السياسات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية في وقت واحد. التحول إلى تنمية خضراء ليس حدثاً آنياً يمكن تحقيقه بقرار واحد، بل يجب النظر إليه كعملية طويلة شاقة، توجهها سياسة من أعلى الهرم إلى القاعدة ومشاركة جماهيرية من القاعدة إلى أعلى الهرم. هذا النهج يسبغ على التحول الشرعية السياسية والاجتماعية المطلوبة لحشد الجهود على نطاق واسع كي يصبح التحول حقيقة. والحوكمة الرشيدة هي المطلب الأساسي لتحقيق ذلك. * الامين العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية والمقال ينشر بالتزامن مع مجلة «البيئة والتنمية»