×
محافظة المنطقة الشرقية

مشكلة الانحناء تنتقل من “آيفون 6 بلس” لـ “غالاكسي أس 6 أيدج”

صورة الخبر

لا أعرف لماذا بدا إعدام الآثار في الموصل أشد وقعا من مجازر البشر التي ارتكبتها وترتكبها داعش كل يوم. هل يؤشر هذا الى عاطفة مشروخة يعيشها المهتم بالثقافة؟ ربما، ولكن الصرخة التي ظلت تتردد في الأعماق تتعدى الشعور بالكارثة هذه المرة، فهي أقرب إلى نذير بالخراب الكامل. لعلها لحظة رمزية بالإضافة إلى كونها فعلا عنفيا، فها هي التواريخ تتهاوى أمام معاولهم، تاريخ الحضارات التي هجعت تحت التراب، ثم رأت النور مع فكرة بدت على قدر من الأهمية، وهي البعد الأممي للحضارات، وسواء تحقق هذا البعد على يد رواد عصر النهضة الحالمين بالشرق منبع الجمال والطهارة، أو على يد صنّاع الأسواق والمستعمرين، فهو خلق للمعنى الجمالي دلالات وجدانية. لقد أصبح إرث المكان مفردات تعريف للانتماءات الخيالية والحقيقية، فقد كان محفزاً مهماً لتنشيط النزعة الموحدة الجامعة في العراق الحديث. لعل عملية الإمحاء للتاريخ العراقي قد بدأت قبل هذا الوقت، ولكن تجسيدها اختلف هذه المرة، إنها اليوم تبدو وكأنها عنف ما بعد حداثي حيث كل القيم والأخلاق والمعايير تكتسب صيغة عبثية، فهذا الجيل الإرهابي الجديد هم أبناء مجتمع يعيش في عالم افتراضي، وهم في مسعاهم تجسيد العنف في صورته القصوى، يمضون في محاولتهم تدمير المعنى لكل الأشياء المقدسة والأرضية، فما من عبث يفوق هذا العبث بالحياة، حيث يتعدى فعل التدمير أغراضه، ليصبح عنفاً مطلقاً. الرسالة التي يوجهها هؤلاء الرجال العابثون بالقيمة التاريخية للأثر، تتخذ وجهين، وجه المتاجرة حيث يدركون أثمان تلك الآثار، وهذا التصور ينطوي على رغائب دنيوية، ولا تمت إلى التعليمات العقائدية بصلة، فلو كانوا دعاة تشدد ديني حقا، وطامحين إلى سيادة معتقدهم، لما هرّبوا هذه " الأصنام" الى أقوام آخرى وبأيادٍ إسلامية وعبر معابر بلد إسلامي. الوجه الثاني للقضية ينضوي تحت موقف استعراضي بدأته القاعدة عندما توطنت في العراق وقادها ضباط ورجال مخابرات متمرسون في عهد صدام حسين، حيث اعتادوا تسريب أشرطة التعذيب والقتل من مديرية الأمن العامة لاستباق نوايا التمرد. ولكن سياسة بث الرعب الآن تتخذ صيغة اللعب القاسي المؤذي، وهو لعب اعتاده المجرمون ومتعاطو المخدرات في الغرب، وظهر في أفلام هوليود. قطع الرؤوس بالبلطات، وحرق البشر في الأقفاص، هي لغات صورية للعنف، ولكنها لا تكفي، فهناك تمظهرات لمجانية الفظاظة، اتخذت وستتخذ اشكالاً شتى للترويع، وبينها حرق الكتب. بيد أن تدمير مفهوم "العلامة" المفضية إلى منطق الوجود السلالي للثقافات، ينطوي على رغبة في العودة إلى العصر الأمي الذي يخلو من كل معنى جمالي وروحي. فهذه الحضارات التي يجري إعدام بقاياها اسهمت في خلق فضاءات لدراسة انثربولوجيا الخيال البشري وهو ينطلق نحو آفاق مفهمة الاعتقادات، وتنظيم العلاقة الروحية بالأرض والسماء. ولعل ممارسة العنف على أماكن وتماثيل ليس لها وظيفة في الحاضر، سوى الوظيفة الجمالية والمعرفية، تعني القتل الرمزي للذاكرة في تسلسل وجودها، فالقتلة يعرفون أن لهذه التمائيل وظيفة لا تمت إلى فكرة الأصنام بصلة، لأن زمن عبادة الصخور والأحجار انتهى مع الأديان البدائية، ولم يبق لتلك الصروح سوى شهادتها على حرفية صناعها وثقافة عصرها. إنهم يمعنون في إيذاء الذين يدركون قيمة تلك الآثار لا لكونها مناطق سياحية نادرة لا تقدر بأثمان، بل لأنها أيضاً أماكن تتصل بالمستقبل، فكل هدنة من الحرب في العراق يمضي العلماء الغربيون إليه رغم المخاطرة، ليعلنوا عن كنوز جديدة. تلك الأماكن تُكتشف فيها باستمرار معلومات جديدة لمرويات ووقائع وأفكار مجهولة عن ذكاء وتطور الأقوام القديمة لحضارة ما بين النهرين. كان أحد العلماء يتحدث قبل ثلاث سنوات في محطة بريطانية تلفزيونية ربما البي بي سي الرابعة، لانني لا أتذكر الآن تحديدا، يتحدث عن الكمبيوتر البدائي الذي صنعه الآشوريون، وكانت الخريطة الرقمية التي يعرضها على ألواح الطين التي وجدت في مكتبة أشور بانيبال مذهلة. في اللحظة التي شاهدت فيها اكتساح النمرود وتهديم المعابد والتماثيل والرقم الطينية، تمنيت أن يكون هذا العالم قد نقل تلك الألواح الى المتحف البريطاني، فأزمنة السبات الحضاري التي مر ويمر بها العراق، لا توازيها فجيعته اليوم في ضياع ثقافته الحديثة والموغلة في القدم. والحق ان هناك ممهدات لثقافة داعش يمكن أن نلمسها في العراق ذاته، فلم تهتز حكومته لهول صدمة تلف مدن الحضر ونمرود وسواها من الصروح الحضارية، فآثار بابل وسومر وآكاد وسواها من كنوز تنتشر في الوسط والجنوب، لا تحظى بما يليق بها من مقام لا عند الناس ولا عند السلطات المحلية التي ينظر إليها الكثير من ممثليها نظرة لا نقول انها تشبه نظرة داعش لتلك الآثار، بل هي بحكم انغلاقها الديني غير عابئة سوى بحيزها في بث ثقافة تمعن في تجهيل الجمهور. في أور أشاد حسن المجيد وصحبه مطارا حربيا لصيقا بمدينة المدن في العصور القديمة، حيث بنت عبقرية سومر أول مدرسة نظامية ومعها انتشرت حضارة طبقت آفاقها العالم القديم. وعندما تقلع طائرات هذا المطار التي أبقاها الأميركان في المكان ذاته، تهتز جدران المعابد والصروح والمدرجات التي حاولت الوصول إلى الشمس، فبناء " الزقورة" لم يكن معلماً جمالياً فقط، بل تقف خلفه أفكار ورؤى حيث يتسامي المتأملون فيه وهم يصلون الدرجات الأعلى، كي يدركوا الشمس في نقطها الأقرب. كانت صاحبة الحانة تريد تطويع كلكامش على الرضا بقسمة الحياة، بعد أن خاب مسعاه في الخلود، ولكنه يجيبها في خاتمة الملحمة: "أين الطريق إلى " أوتو - نبشتم" دليني كيف أتجه إليه؟ فإذا أمكنني الوصول حتى البحار سأعبرها" هل يقوى هذا الذي نحت من صخر وطين الرافدين أسطورته، على مجابهة الوحوش هذه المرة، بقوة الثقافة التي أسس لمفرداتها حلمها الأول، الخلود؟ هذه أيام حزينة تواجهها الثقافة العراقية، تهتز لها تلك الصروح المهمة التي أشادها الآكاديميون منذ ثلاثينات القرن المنصرم، يوم عاد طه باقر وفؤاد سفر من الخارج، ليضيفوا إلى لبنات ذاكرة العراقيين المشتركة دفقاً جديدا، وللفن والأدب والدراسات التاريخية مفاتيح لقراءات شديدة الثراء والتنوع، ولا عزاء للثقافة العربية والإسلامية وداعش تقيم ممالك التوحش المتنقلة بين ظهرانيها.