صدرت حديثا للروائي المغربي محمد عز الدين التازي رواية جديدة بعنوان يوم آخر فوق هذه الأرض، وقد انطلقت من عالم خيالي، لكنها تنبش عميقا في أغوار الذات ونبض الجغرافيا وتحولات المجتمع. يراود نص التازي -الصادر عن دار العين بالقاهرة والحاصل على جائزة الطيب صالح للرواية لعام 2013- عالم الأحلام بوصفه موطن الرغبات المستحيلة وملعب الحوادث الغريبة ومنفى العلاقات اللاسببية، لكن هذه الرحلة الحلمية تكتسي طابعا ارتداديا يستفز الواقع ويسائل بواطن الذات وأعطاب المجتمع واختلال علاقات الأفراد وقيم الجماعة. بغض النظر عن الاجتهاد المتواصل للكاتب محمد عز الدين التازي في تجريب الأشكال الجديدة للكتابة وتعميق الحوار بين الأجناس الأدبية داخل النص فإن الرواية الجديدة لا تحيد عن مدار المنجز الروائي للكاتب المغربي الذي وسمه دائما الانجذاب إلى كتابة تحولات الأمكنة والناس بوعي نقدي اجتماعي وسياسي حاد. أولوية فنية ومع ذلك، ظل التازي يحمي نصه من تعسف الأيديولوجيا وشعارات الالتزام المعلن، مانحا الأولوية دائما للصناعة الفنية كأرقى السبل لخدمة الموضوع. يوم آخر فوق هذه الأرض هو يوم ما بعد الحلم-الكابوس الذي يراه بطل الرواية مراد الأشقر ذات ليل.. حلم من فصول كثيرة يأخذه إلى حالة مفارقة وهو يجد نفسه قد أضحى كائنا عملاقا يطل على الناس والمدينة من عل، تدور في فلكه السحب، ثم يتبدد الكابوس فيهوي في ذات المنام إلى بساط الهوى والحياة الرغيدة، ثم تنقشع أضغاث الحلم في شمس يوم جديد من عمر مراد، الرجل الستيني، المتقاعد والوحيد. يخدم البعد الخيالي واقعية الرواية إلى حد بعيد، فالحالة الفسيولوجية الغريبة التي أصبح عليها مراد جعلته عينا تطل من أعلى على أرجاء مدينة فاس التي خرجت عن بكرة أبيها لمشاهدة هذا الكائن الأسطوري الذي تتضارب حوله الإشاعات والحقائق. ولأن الخروج الجماهيري صادف ظرفية ساخنة طبعتها مظاهرات الربيع الثوري المطالب بالديمقراطية فإن الأمر حرك الأجهزة الأمنية التي باتت مطالبة بتقديم رواية مضبوطة عن حقيقة وجود عملاق لا يرى رأسه المتاخم للشمس. وفي هذا المشهد يجد المؤلف مساحة لمساءلة العقل الأمني للدولة في التعامل مع الظاهرة الاحتجاجية والمعارضة في سنوات الرصاص. بموازاة الهم الموضوعي، تتيح هذه الوضعية المدهشة لمراد أيضا فرصة قراءة كتاب حياته الشقية، ومن خلال هذه الإمكانية يبرز التازي قدرته على بناء التاريخ الشخصي للذات وبناء العلاقات المنطقية بين خيباتها ورغباتها، بين ماضيها وحاضرها. في هذا السياق، يستعيد مراد حياته كطفل نجا من براثن مرض قاتل في منتصف القرن الماضي حين فقد والديه ونشأ في كنف خالته وزوجها الفاطمي، الصانع التقليدي المعروف المنتمي إلى البورجوازية الصغيرة ذات الأصل الحرفي في فاس العتيقة. رواية بصرية يتواصل الشريط متوقفا عند النجاح الدراسي لمراد الذي ينشأ وسط بنات خالاته الثلاث، ثم فقدانه الوالدين المتبنيين، فاستقلاله بالعيش في شقة صغيرة بعد حصوله على عمل في إدارة ينخرها الفساد.. حياة موزعة بين العمل والقراءة وطقس الرياضة الصباحي ولحظات بحث عن النسيان وطرد العزلة في الحانة. لا تتبدد ورطة الكابوس الذي اتخذ حالة مسخ جسدي إلا بحلم ينهي عزوبية مراد بالزواج من ندى ابنة صاحب العمارة التي يستأجر لديه الشقة، ويبدو الحلم كأنه تعويض طالما راودته النفس المحرومة التي فقدت لذة الشعور بالحب منذ تجربة فاشلة في الشباب الأول. ثم ينقشع الحلم العاشق كما يتبدد كابوس المسخ، ويقوم مراد ليبدأ يوما آخر فوق الأرض، يوم رجل يتجرع كأس العزلة والانسلاخ عن موجة القيم الفاسدة. نص عز الدين التازي يجمع بين النفس الكلاسيكي في الحكي ورسم فضاءات حركة الشخوص والحس التجريبي المتمثل في الانفتاح على اللغة الشعرية والتقطيع المشهدي الذي يجعل بعض المقاطع أقرب إلى لغة السيناريو الفيلمي، مما يقوي العمق البصري للمادة السردية. هي سيرة ذات، وعبرها سيرة فاس المكان، بتعايش الفضاءات التاريخية مع الامتداد الجديد لمدينة ما بعد الاستقلال، وفاس الزمان، بتحولات أنماط العيش في الحاضرة العريقة، وبنية علاقاتها الاجتماعية وتشكيلاتها الطبقية. يذكر أن محمد عز الدين التازي من مواليد فاس عام ١٩٤٨، ومن أهم إصداراته الروائية أبراج المدينة ورجل البحر والمباءة وأيها الرائي، والخفافيش، وشهوة تحت الرماد، ووهج الليل. وقد حصل التازي على جائزة المغرب للكتاب عام ١٩٧٧، وجائزة العويس الثقافية في القصة والرواية عام ٢٠١٣، وأصدرت له وزارة الثقافة المغربية الأعمال الكاملة (الروايات) في ثلاثة أجزاء.