هل هي مصادفة قدرية أم موضوعية، أن تحتفل جامعة الدول العربية بالذكرى السبعين لإعلان تأسيسها خلال قمة هي الأكثر خطورة وسخونة في تاريخ العرب الحديث، وبالتوازي مع عملية «عاصفة الحزم» التي تعد لحظة تنويرية فارقة في تاريخ العرب الحديث، ولا نماري إن قلنا إنها اللحظة الأكثر إشراقا - على مأساوية الحرب - منذ تضامن حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973؟ ربما لا يهم الجواب فلسفيا، بقدر ما يهم المراقب المحقق والمدقق لشؤون العرب متابعة أعمال قمة شرم الشيخ التي تنطلق صباح اليوم السبت، وسط أجواء مهددة وبعنف للأمن القومي العربي، وبعد أربع سنوات عجاف من الثورات والفورات الزائفة في غالبها، التي كانت وبالا على شعوبها، وجزءا واضحا من معادلات التفكيك والتفخيخ المؤامراتية الدولية. في الأعوام الأخيرة ارتفعت علامة استفهام: «هل من فائدة لهذه الجامعة»؟ ويبدو أنها علامة مشابهة أيضا لتلك التي طرحت بشأن منظمة الأمم المتحدة، والسبب واضح، وهو تغير الأوضاع وتبدل الطباع، التي كانت سائدة بعد الحرب العالمية الثانية، وسبعة عقود كافية لتغيير الشيء الكثير. المؤكد أن «مربط الفرس» في السؤال هو حالة الضعف والانكسار، بل والتردي التي شهدتها الجامعة، خاصة منذ أوائل التسعينات، لا سيما بعد الغزو العراقي للكويت، عطفا على أخطاء استراتيجية ارتكبها القائمون على أمرها، ما جعل عجزها عن حلحلة الخلافات العربية - العربية تحصيل حاصل. ولعل أكبر الأخطاء في الأعوام الأربعة المنصرمة التي ارتكبت في «بيت العرب»، تحولها إلى أداة سريعة لإحالة ملفات عربية بقضها وقضيضها إلى مجلس الأمن، وإعطاء الفرصة كاملة للتدخل الأجنبي، رغم نواياه غير الخافية على أحد، لإشاعة الفوضى والفساد الأدبي والمادي، كما جرى الأمر في ليبيا، ذلك عوض أن يكون هناك موقف حاسم وحازم، يستند إلى ميثاق الجامعة، وإلى اتفاقية الدفاع العربي المشترك. مهما يكن من أمر الماضي، فإن الواقع أشد إيلاما، والمخاطر المحدقة أكثر هولا، فالخريطة السياسية في الشرق الأوسط تتغير بسرعة كبيرة، وحال توصل الأميركيين والإيرانيين إلى اتفاقية ما بشأن البرنامج النووي الإيراني، فإن مخبر ومظهر المنطقة سيؤول إلى المجهول، طالما بقي العرب غير فاعلين في اللعبة الدولية.. فهل يتحتم على القادة العرب في شرم الشيخ قراءة عقلانية تجيد التفكير والتدبر؟ الشاهد أن التحدي الأخطر لا يتمثل في مهددات الأمن القومي العربي، الظاهرة للعيان، بل ربما تكون الحاجة الحقيقية الآنية، هي إحياء الفكر العروبي الوحدوي في نفوس وعقول شباب العرب، أولئك الذين لم يعاصروا الاستعمار الأجنبي، وما خبروا يوما معنى التحرر من المستعمر، الذين حاصرتهم العولمة من كل صوب وحدب، الأمر الذي جعل هويتهم العربية تكاد تذوب وسط هجومات الثقافة والسياسة والاقتصاد، وفي منطقة جغرافية فيها كثير من الخصوم للعرب كالإيرانيين والإسرائيليين، والحالمين بالاستحواذ عليهم وإخضاعهم. لن تقبل الشعوب العربية من المجتمعين في شرم الشيخ هذه المرة بيانات بلاغية بلغة منمقة، بل تريد هذه الشعوب تحركات حقيقية على الأرض، تعطي الأمل في العمل الحقيقي الخلاق، الذي يثبت أن العرب أمة حية نابضة بقوة لم تمت بعد، ولن تموت بإذن الله. هل جاءت الأقدار على دراميتها في اليمن لتعطي هذه الفرصة؟ المؤكد أن إشكالية اليمن، هي تهديد استراتيجي في الحال والاستقبال للمنطقة برمتها، عربيا وأفريقيا، وملامح المؤامرة في المشهد لا تخطئها العين بحال من الأحوال، فهي متصلة بالأسوأ القادم من أسف، حيث حلف المصالح المشتركة من طهران مرورا بتل أبيب وصولا إلى واشنطن، يعمل لاقتسام السيادة والنفوذ، عربيا وشرق أوسطيا، ولهذا فإن الإجماع العربي على دعم عملية «عاصفة الحزم»، وبلورة رؤاها المستقبلية على الأرض، أمر سيظهر بشكل حقيقي، لا رمزي، أن هناك إرادة عربية قوية وعزما على مواجهة الصعاب ومجابهة التهديدات، وحفظ السلام، ووأد المخاطر في مهدها، دون اللجوء إلى الإحالة لهيئات أممية لم ينل العرب منها سوى المرارة والألم. والثابت كذلك أن الشراكة العربية - العربية التي تبلورت منذ اللحظات الأولى لعملية عاصفة الحزم، تثبت حتمية الحاجة إلى الطرح المصري الذي اقترحه الرئيس عبد الفتاح السيسي بشأن إنشاء قوة عربية مشتركة لمواجهة المحن والنوازل، وهي قوة ذات أبعاد وأطر متعددة، عسكرية، وأمنية، واستخباراتية، ولوجستية، وفكرية، تعمل على الردع في الحال، واجتثاث الفكر الإرهابي وكل من تسول له نفسه تهديد العرب في الاستقبال، وتقبل التطوير، والتعديل بما يلائم مقتضيات العصر والحالة. تشرئب الأعناق العربية إلى شرم الشيخ، وعاصفة الحزم، تعمل على الأرض في اليمن، والقادم هو الأهم ولا شك في ذلك، ورغم المخاطر الكبيرة القائمة في هذه الساعات الحساسة والحاسمة، فإن الأمر قد يحمل معه إيجابيات لا نراها في اللحظة الحالية بسبب سخونة المشهد. تعلمنا اللغة الصينية أن كلمة الأزمة تكتب عبر حرفين أحدهما يشير للخطر والآخر للفرصة، بمعنى أن الأزمة يمكن أن تولد فرصة للتعلم والاستفادة منها، ما يجعلنا نقلل من إمكانات حدوثها في المستقبل مجددا، أو في أضعف الأحوال نكون مهيئين لمقابلتها في الجولات القادمة وبخسائر أقل. الجامعة والقمة في قلب المحنة الآن، والمحنة كالنار، إن وجدتك قشا حرقتك، وإن وجدتك ذهبا صفتك وأخرجت أفضل ما فيك..