لعلها المرة الأولى التي يترقب نتائجها المواطن العربي منذ القمة العربية الطارئة بالقاهرة في 10 أغسطس 1990 عقب الغزو العراقي للكويت. فمعظم الظروف والملابسات التي تحيط بهذه القمة مختلفة جذريا منذ ربع قرن، فغالبية القادة تغيروا وهناك مقاعد شاغرة وأخرى قلقة، هذا بالإضافة إلى أزمات الثقة بين بعض الدول، لذا فإنها تأتي وسط أحداث أمنية بالغة الخطورة أمست معها أخبار الاغتيالات والتفجيرات والاقتتال الأهلي أنباء يومية، بينما أصبح الاستقرار استثناء، ويتندر المراقبون بقولهم إن توقف العمليات الإرهابية سيكون الخبر المثير للاهتمام. مضت أربعة أعوام عجاف على موجة التحولات المسماة "الربيع العربي" دون أن تتضح طبيعتها ومآلاتها، لكن دوافعها تبقى قائمة، وقد تناولتها بإسهاب تقارير التنمية البشرية التي أصدرتها الأمم المتحدة، وأبرزها الاقتتال الطائفي واستدعاء الأحقاد وعوامل التناحر ومعضلة الهوية، وبروز أنياب حركات الإسلام السياسي بتوحشها، ويتصدرها تنظيم "داعش" والجماعات الدائرة بفلكه. وإذا كانت اتفاقية "سايكس بيكو" قسمت المنطقة بأسس جغرافية، وشكلت دولا وطنية، فإن الثانية تعبث بورقة الطائفية والعرقية، وبينما جرى التقسيم الأول دون دماء ولا حروب أهلية، فإن الصراع الراهن يأتي نتيجة مخاض أنهار الدم، ويهدد الأنظمة العربية لصالح التنظيمات الإرهابية العابرة للحدود وقوى إقليمية أخرى، فتحول أعداء الأمس إلى أصدقاء اليوم على حساب العرب، لتتقاطع أهداف الغرب وإيران وتركيا وإسرائيل بوضوح. ووسط هذه الأجواء المأزومة يترقب المواطن العربي "مواقف تاريخية" للقمة تحمي الأمن القومي الجماعي، وتقدم أطروحات جدّية تحمل الهموم العربية صوب الحفاظ على مقدرات الشعوب وأمنها واستقرارها، وتمهد مناخا توافقيا لحسم حالات "ضعف الثقة" بين بعض العواصم بالمكاشفة، فالتطورات الأخيرة بالمنطقة، خاصة في اليمن وليبيا وسورية، فرضت ضرورة إعادة النظر في العلاقات العربية المأزومة، وكشف دبلوماسيون اختصار القمة ليوم واحد، وزيادة المساحة المخصصة للمناقشات المغلقة بين القادة العرب لقضايا الأمن الإقليمي لتتصدر جدول الأعمال، خاصة تشكيل قوة عربية مشتركة للتدخل السريع بساحات النزاعات. وتتطلب مناقشة مقترحات تشكيل القوة العربية المحتملة قراءة مستقلة، سنتناولها لاحقا، لكننا سنكتفي بالإشارة إلى اتفاق الخبراء على احتمالين: الأول: تأسيس كيان عربي دائم يتفق بشأن حجمه وتمويله وتسليحه، لهذا ستجري مناقشة تعديل ميثاق الجامعة العربية مع ضرورة إسباغ غطاء دولي لتشكيل القوة بإطار حفظ الأمن والسلم العالمي. والثاني: اقتصار القوة الخاصة بمهام محددة، كحفظ أمن واستقرار دولة بعينها - كحالة البحرين 2011 - ودعم قدرات دولة لمواجهة تهديدات - كما حدث مع دول الخليج 1990 - ليكون تشكيل القوة متغيرا وفق مهامها المرحلية. وبعيدا عن جدول الأعمال الرسمي للقمة ومقرراته يمكننا توقع ثلاثة مسارات: المُكاشفة، والاستكشاف، والاصطفاف. فيستحيل بناء "جسور الثقة" دون مصارحة تعززها معلومات موثقة توفرها أجهزة استخبارات الدول المعنية لقادتها، وتأتي مرحلة استكشاف النوايا بالتزامات صريحة محددة تكفلها دول محورية تتصدرها السعودية، وأخيرا يصبح الاصطفاف باعتباره "فرض عين" خلال مرحلة مفصلية من تاريخ المنطقة. وتبقى الإشارة إلى "واشنطن" وحلفائها الإقليميين والأوروبيين باعتبارهم "الحاضر الغائب" في القمة، وتسريب تقارير جعلت مسألة إعادة تشكيل المنطقة معلومة للكافة، ولعل أحدثها دراسة منسوبة لـ"البنتاجون" تكشف تفاصيل تقسيم المنطقة بإطار المشروع المسمى "الشرق الأوسط الجديد"، وتشمل الدراسة التي أعدتها أربع وحدات بحثية تضم 120 خبيرا استراتيجيا وسياسيا وعسكريا، وترسم سيناريوهات يفترض تطبيقها تدريجيا لتحقيق الأهداف. وتتألف الدراسة من 432 صفحة وتتبنى أفكار مُنظر مخطط تفكيك المنطقة المستشرق البريطاني برنارد لويس، مبشرا بتقسيمها لنحو ثلاثين دويلة إثنية وطائفية، بإثارة النعرات الكامنة بالمنطقة، وتبناها "البنتاجون" ونشرها بمجلته الخاصة مرفقة بمجموعة خرائط توضح تقسيم كل دولة لعدة دويلات. ويقول لويس: ينبغي أن يكون شعارنا "إما أن نضعهم تحت سيطرتنا، أو ندعهم ليدمروا حضارتنا" وتكون مهمتنا المعلنة "تدريب شعوب المنطقة على الديموقراطية"، وكان هذا الشعار - بالفعل - عنوان التدخلات الغربية، وها هي النتائج ماثلة أمامنا بتحدياتها القاسية. وهذه القمة الأولى التي تستضيفها مصر بعد حراكي "25 يناير، و30 يونيو" ومشاركة ورئاسة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، فضلا عن تزامن انعقادها مع مرور 70 عاما على تأسيس الجامعة العربية التي أصبحت بدورها على محك الواقع الجديد.