في يوم الأحد قبل الماضي، أدلى بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل المنتهية ولايته، بحديث إلى إذاعة «جيش إسرائيل»، قال فيه كلاما، أظن أنه يُقال لأول مرة في تل أبيب، وبمعنى أكثر دقة، فإنه يُقال فيها لأول مرة، منذ انطلاق ما يسميه بعضنا «ثورات الربيع العربي» قبل أربعة أعوام! الأحد الذي أدلى فيه نتنياهو، بحديثه، كان موافقا لـ15 من هذا الشهر، أي قبل إجراء انتخابات الكنيست هناك بـ48 ساعة، وهي الانتخابات التي جرت في موعدها، ولم تتضح عواقب نتائجها النهائية على تركيبة الحكومة الجديدة، حتى اللحظة التي كنت أكتب فيها هذه السطور، فلقد كانت هناك تخمينات هنا، وأخرى هناك، عن فوز هذه الكتلة الانتخابية، أو تلك، سواء كانت كتلة الليكود التي يرأسها نتنياهو، أو كتلة «الاتحاد الصهيوني» اليسارية، التي يأتلف فيها حزب العمل، برئاسة إسحاق هيرتزوغ، مع حزب الحركة برئاسة تسيبي ليفني.. ولقد قيل، مثلا، إن كتلة الليكود حصلت على 30 مقعدا، وإن كتلة «الاتحاد» حصلت على 24، غير أن تأثير هذا كله، على شكل الحكومة الجديدة، لم يتضح بعد. الكلام الذي أدلى به زعيم الليكود، كان عن أن هناك حكومات أجنبية، عملت وتعمل على إسقاطه، وإسقاط كتلته الليكودية، وأن هذه الحكومات قد دفعت في سبيل ذلك، ملايين الدولارات، لجماعات يسارية، وشخصيات إعلامية! وكما ترى، فإن هذه هي المرة الأولى، التي ينتقل فيها حديث المؤامرة، الذي صاحب ثورات الربيع العربي، من عواصم العرب، إلى العاصمة الإسرائيلية نفسها! كان الظن، قبل حديث زعيم الليكود، أن بلده ليس فقط بعيدا عن ثورات من النوع الذي عرفناه، وإنما هو بعيد عن المؤامرات التي سبقت ثوراتنا، ثم صاحبتها، ولا تزال تقترن بكل حديث عنها، إلى اليوم! كان هذا هو الظن، فإذا بكلامه في الحديث الإذاعي، ينطق، إذا صح، بأن المنطقة كلها، بما فيها إسرائيل، في حديث المؤامرة سواء! ليس هذا فقط، وإنما كان نتنياهو، مع غيره من الساسة في بلاده، لا يتركون فرصة تمر، إلا ويشيرون فيها، صراحة، إلى أن إسرائيل هي «واحة الديمقراطية» في المنطقة، وأن هذا الأمر تحديدا، هو الذي يجعلها كدولة، شيئا، بينما العالم من حولها في منطقتها، شيء آخر تماما.. فإذا بحديثه الإذاعي، يقول بغير ذلك، وربما بعكسه، لأن الديمقراطية الحقيقية، هي نقيض وجود أي بيئة حاضنة، لأي مؤامرة، من نوع ما تكلم عنه رئيس الليكود. وهو لم يشأ أن يكشف عن طبيعة تلك الحكومات التي راحت تمول جماعات اليسار، وشخصيات الإعلام، لإسقاطه، ولكنه اكتفى بأن وصفها بأنها حكومات أجنبية، مع ما في الوصف من عمومية، لا تكشف بطبيعتها عن شيء محدد.. إنه لم يوضح ما إذا كانت هذه الحكومات الأجنبية، هي حكومات عربية، مثلا، أم أنها من خارج المنطقة كلها؟! وإذا كان «الاتحاد الصهيوني» المنافس لكتلة الليكود يوصف بأنه يساري، وإذا كانت هذه الصفة تعبر عن حقيقة فيه، بحكم طبيعة أفكاره التي يدعو ناخبيه إليها، فهل معنى هذا، أن نتنياهو كان يقصده، أو يقصد بعضه، وهو يتكلم عن تمويل لجماعات في اليسار الإسرائيلي لإسقاطه؟! وإذا كان يقصده فلماذا لم يتحدث تحديدا عنه، ولماذا قرر أن يجعل كلامه في المطلق، وفي العموم؟! أغرب ما في الأمر أنه لا جماعات اليسار ولا شخصيات الإعلام ولا أي شخصيات غيرها في «الاتحاد الصهيوني» أخذت كلامه بأي قدر من الجدية، وكان رد فعلها الوحيد، أن زعيم الليكود يعرف، في قرارة نفسه أولا، ومن خلال استطلاعات الرأي ثانيا، أن فرص نجاح تكتله بأغلبية الكنيست البرلمانية، قليلة، وأن فرص تكليفه هو بتشكيل الحكومة المقبلة، قليلة أيضا، وأنه لذلك، يستبق هذا كله، بحديث عن المؤامرة، وعن التمويل، وعن الحكومات الأجنبية التي تستهدف إسقاطه وإبعاده عن المشهد، بل وإبعاد الليكود نفسه عن الحكم! غير أن هذا كله لا يهم، لأن ما يهم حقا، هو مدى حقيقة ما راح نتنياهو يردده، وهل هو خيال، أراد به تبرير خسارته حين يخسر، أم أن فيه نصيبا من الصواب؟! لا يملك أحد أن يجيب عن مثل هذه التساؤلات الحائرة، الآن، ولا بد من مسافة زمنية بين صخب المعركة الانتخابية هناك، ووقت آخر يمر بعدها، نستطيع فيه وخلاله، أن نفهم لماذا انتقل حديث المؤامرة من عواصم الربيع العربية، إذا جاز أن نسميه ربيعا من أصله، إلى العاصمة الوحيدة التي كانت تزهو، طوال الوقت، بأنها بمنأى عن مثل هذا الحديث، وأنه لا شيء فيها يدعو لأن يكون للمؤامرة مكان، وأن المؤامرة تعرف طريقها فقط إلى الذين لا يعرفون الديمقراطية في حياتهم السياسية، ولا في مجتمعهم بشكل عام! سوف يأتي وقت نعرف فيه، ما إذا كان أحد قد تآمر على ليكود إسرائيل، فعلا، أم أن إسرائيل كلها، بما تفعله وتمارسه، ضد أصحاب الأرض في فلسطين، تتآمر على نفسها، قبل أن يتآمر أحد عليها؟!