أكتب إليك معلمتي. يا من فتحت لي أبواب التاريخ، وأخذت بيدي، وطفنا معا في أروقة المدائن القديمة. يا من تحملت أسئلتي، وبثغر باسم كنت تزينين إجاباتك. أذكرك اليوم وأنا أمسح دمعة شوق لتلك الأيام. لقد جعلت مني نجمة في فضاء العلم، أعكس كل ضوء يمر عليّ من الكتب والعلم. سرت في طريق رأيت رسمه في عينيكِ. أعطيتِ.. وكم أعطيت، ترى هل يمكن أن تكون ذرة مما أنتِ أعطيتِ؟! دخلت فصلك وأنا جاهلة بكل ما يسمى بالتاريخ. خلقتِ من الأحداث قصصا ودعمتها بالأساطير، وإصرارك أن نبحث بأنفسنا ونقرأ لنرجع إلى الأصل ونفرق بين الخرافة والأسطورة والحقيقة. حقا كان يتعبنا ولكن الآن فقط عرفت لماذا. إن المهارات التي سلّحتنا بها كان لها أكبر أثر في حياتي. وأذكر حين كنت تربطين ما بين المواد الأخرى وبين مادة التاريخ في كل فرصة، لا تدعينها تفوت من دون أن تقودينا كي نرى بأنفسنا أن العلم كله واحد، فعندما كانت تمر علينا كلمة أصلها عربي كنت تركزين عليها وتطلبين منا أن نبحث عن غيرها، وحين يذكر اسم جغرافيا معينة تسارعين إلى ربطها بالحاضر، وتبينين موقعها من الصراعات القائمة في ذلك الوقت. التاريخ معك كان رحلة بحث عن الهوية عن الاعتزاز بالجذور. عن أهمية الحفاظ على ذاكرتنا من التزوير والتهميش. كنا ندرس التاريخ باللغة الإنجليزية ولكن بروح ودم وقلب عربي. تذكرتك حين وقفت يوما في مناظرة مع طالب من دولة العدو المغتصب، كل يدافع عن قضيته. هو يدافع عن قيام الدولة العبرية، وأنا أدافع عن حق الشعب الفلسطيني في أرضه المغتصبة. لا أعرف يومها كيف خرجت الكلمات من فمي، ولا كيف تتابعت الحجج والدلائل، وخرجت تصفعه وهو مذهول، كأستاذنا الذي بدوره لم يتوقع أن طالبة من المملكة لديها كل هذا الزخم من المعلومات والحجج، وذلك بسبب الفبركة والتضليل والتعتيم الإعلامي لديهم على ثقافتنا وتاريخنا! لقد كنت معي حينها في كل كلمة نطقت بها. في كل حركة من جسدي. في كل تعبير على وجهي، هل كنت أقلدك؟ بل كنتُ أنتِ حينها، لأنني حينما انتهيت وعدت إلى مقعدي شعرت وكأن ضجيجا بداخلي توقف. ذاك الضجيج كان صوتك يحثني ويرشدني، ثم رأيت نظرات الإعجاب في أعين باقي الفصل، بل عند انتهائه اقترب مني بعضهم وحدثوني عن عدم معرفتهم بكثير مما ذكرت! كم تمنيت أن تكوني معي حينها لتشهدي ثمار تعبك. أتذكرك كلما دخلت في مناقشة مع أحدهم في الغرب عن الإسلام أو التاريخ أو الأحداث الجارية. كيف دربتنا على التأني في القراءة وألا نسارع بالرد، بل نفكر بما كُتب، ثم نأخذ كل نقطة على حدة ونرد عليها، وأن نبقى على نفس الخط وألا ننصاع إلى الطرف الآخر حينما نراه يشدنا إلى زاوية أخرى كي يفلت من الإجابة التي ستبين ضعفه. كيف لي أن أنسى كلماتك التي طالما رددتها عليّ: "ميسون انتبهي.. انظري أين أنت! هل ما زلتِ في قلب الموضوع أم أُخذ بك إلى زاوية أخرى؟ انتبهي، فإن ذلك ضعف يتم التسلل من خلاله"! أتذكرك كلما وقفت أمام طالباتي لأحاضر، مهما كان الموضوع فلا بد أن أضيف من خلاله إلى ثقافتهن العامة، لا بد أن أشدهن للأدب للتاريخ للجغرافيا لأصول التربية الحديثة والتنمية الذاتية، لأهمية متابعة الأحداث بأن يبحثن بأنفسهن ويفعّلن تلك الآلة الربانية في رؤوسهن. أتذكرك كلما أكدت عليهن أن يكنّ قائدات لا منقادات. أتذكرك كلما تحدثت معهن عن أهمية وجودهن في هذه الحياة، وأنهن لسن مجرد اسم أو رقم. إنهن قادرات على البناء بدءا من الأسرة وانتهاء بالمجتمع والوطن. تذكرتك عندما سقط ذاك الحائط بيني وبين العلم ورأيت.. نعم رأيت في لحظات مرت عليّ كل تاريخي، وكيف أن الله سبحانه وتعالى كان يجهزني من خلال كل المحن التي مرت عليّ. من خلال كل التحديات التي واجهتها، فلم تكن سوى خبرات أراد الله سبحانه لي أن أمر بها. كانت بمثابة حجر الأساس لمواجهة كل ما كان ينتظرني فيما بعد، فمخزون الخبرات لدي كان ثريا أغرف منه متى أردت وحسبما تتطلب الحاجة، سواء كان ذلك خلال درس أو محاضرة أو كتابة مقال، نعم تذكرتك يا معلمتي، وتذكرت كيف أنك كنت تقولين لنا: "كل ما تمررن به لسبب، فاجعلن من نتاجه بناء". تذكرتك عندما أصبحت معلمة، وتذكرت كل حركاتك داخل الفصل، وكيف كانت عيناي تراقبان كل ما تقومين به من جلوس على الطاولة، وكيف كنت تحركين قدميك إلى الأمام والخلف، تذكرت خاتم التخرج الذي كان في إصبعك بحجره الأخضر، ونظرت يومها إلى يدي. إلى خاتم تخرجي بحجره الأزرق، وقلت في نفسي إنها معي... إنها معي! تقمصت في بداياتي شخصيتك، وكأنني أنت داخل الفصل، ثم تدريجيا أخذت شخصيتي المستقلة تظهر.. واليوم وبفضل الله ثم بفضلك أقف لأقول بكل فخر وأعلنها لكل العالم لينتبه ويصغي.. أنا معلمة!