قد يكون الشعر، مثله مثل الأم والربيع، مرادفاً للولادة والجمال والنموّ والحركة. فالعلاقة بين هذه المدلولات الثلاثة تداخلية في صميمها إلى حدّ أنّ الاحتفال بها يُصادف في اليوم ذاته. يوم يُبشّر بالحبّ والخصوبة والجِدّة والإبداع. ففي 21 آذار (مارس) تتلاقى مناسبة عيد الأمهات وبداية فصل الربيع واليوم العالمي للشعر ليكون هذا التاريخ احتفالية بالحياة نفسها، أو لنقل بالبدايات. يوم يُصرّف فيه الاحتقان داخل هذا العالم الخانق عبر فعل «الولادة». ولادة الطبيعة (الربيع)، الإنسان (الأم)، الحرية (الشعر). فيغدو اليوم كأنه مناداة للعودة إلى الفطرة، البراءة، بل المثالية في زمن غارق في أزماته وجهله وظلاميته. وعند الحديث عن الولادة، لا بدّ من التوقف أولاً عند تنويعات اللغة العربية وثرائها، هي التي فرّقت بين لفظتي «الأم» و»الوالدة»، مانحةً لفظ «الأم» درجات أرفع ومعانيَ أسمى. فهل كلّ من تلد تستحق أن تكون أماً؟ الولادة هو أن تهب الحياة بينما الأمومة إحساس أنثوي قد يصل إلى حدّ نكران الذات بغية الحفاظ على تلك الحياة التي خرجت منها. من هنا، نجد أنّ معظم الشعراء العرب يؤثرون كلمة «الأم» بدلاً من «الوالدة». والمعلوم أنّ الأمومة - بكل ما تحمله من قيم إنسانية عميقة - شكلّت تيمة جوهرية في الأدب، على اختلاف أطيافه، شعراً ومسرحاً ورواية. وفي هذه المناسبة، نجدنا أمام تساؤل قديم/ جديد عن الرمزية التي تُمثّلها «أسطورة» الأم في الأدب، وبخاصة الحديث منه؟ هل اختلفت صورتها في الرواية عن الشعر؟ الجواب ربما لا تكفيه حدود هذه المقالة، ولكن إن استعرضنا بلمحة موجزة مكانة الأم في الأدب العربي مثلاً لوجدنا أنّها أكثر حضوراً في الشعر ممّا هي عليه في الرواية. فالأمومة حالة «خارقة» تتواءم مع الحالة الشعرية بخيالها ومجازها. في الشعر لقد اتسمت صورتها في معظم القصائد العربية، القديمة منها والحديثة، بالقداسة والنقاء، كقول الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي «الأمُ تلثم طفلها وتضمه/ حرمٌ سماويّ الجمال مُقدس»، أو كما جاء في قصيدة سعيد عقل الذي نزّهها عن البشر بوصفها ملاكاً: «أمي يا ملاكي/ يا حبي الباقي إلى الأبد». بينما أثنى حافظ إبراهيم على الأثر السوسيولوجي والبيداغوجي أو التربوي للأم بقصيدة شهيرة نَسَفت حينها أفكاراً ذكورية كانت تؤطّر دور المرأة في الحياة داخل ركنين صغيرين، المطبخ وغرفة النوم. وفيها يقول إبراهيم: «الأمُ مدرسة إذا أعدَدْتَها/ أعدَدْتَ شعباً طيبَ الأعراقِ/ الأمُ روضٌ إن تعهده الحيا/ بالريِّ أورَق أيمّا إيرَاقِ/ الأم أستاذ الأساتذة الأُلى/ شغَلَت مآثرهم مَدى الآفاق». أمّا حسن عبدالله، فاختار أن يُعظّم فئة أخرى من الأمهات، أم الشهيد التي تُعطي ما هو أغلى من حياتها وتصبر محتسبةً فاجعتها عند الله، فيقول: «أجمل الأمهات التي انتظرت ابنها/ أجمل الأمهات التي انتظرته/ وعاد مستشهداً/ فبكت دمعتين ووردة/ ولم تنزوِ في ثياب الحداد...». وفي قصائد أخرى، يُمكن العثور على صورة الأم «الحبيبة» بحيث تعكس علاقة الشاعر (الولد) بأمّه المفهوم الأوديبي، بمعنى تعلّق الإبن بوالدته والبحث عنها في وجوه النساء/ العشيقات. وهذا ما ورد في قصائد كثيرة لنزار قباني مثلاً، هو الذي جمعته بأمّه علاقة «خرافية» جعلته متعلّقاً بثديها حتى السابعة من عمره «عرفتُ نساء أوروبا/ عرفت عواطف الإسمنت والخشب/ عرفت حضارة التعب/ وطفت الهند، طفت السند، طفت العالم الصفر/ ولم أعثر/ على امرأة تُمشّط شعريَ الأشقر/ وتحمل في حقيبتها/ إليّ عرائس السكّر/ وتكسوني إذا أعرى/ وتنشلني إذا أعثر...». وترتبط صورة الأم أيضاً بمشاعر الحنين إلى الطفولة، إلى زمن مضى، وبراءة لن تعود. وهذا ما عبّر عنه محمود درويش الذي جمعته بأمّه صلة أعمق من أن تُفسّر، فكانت بطلة الكثير من قصائده، أشهرها: «أحنّ إلى خبز أمي/ وقهوة أمي/ ولمسة أمي/ وتكبر فيّ الطفولة/ يوماً على صدر يوم/ وأعشق عمري لأني/ إذا متُّ/ أخجل من دمع أمي». وحين نحكي عن الحنين الموجع إلى الأم (الغائبة/ الراحلة/ البعيدة) تحضر أبيات بودلير، الشاعر الفرنسي الذي لم يُخفِ عقداً نفسية تولدت لديه جرّاء زواج غير متكافئ بين أمّ شابة وأب عجوز، هو الذي عانى من إهمال والدته له بعد ارتباطها برجل عسكري حادّ الطباع. ولكن، مع قسوة مفرداته وسوداوية قصائده، ظلّ بودلير إلاّ أن يكون رؤوفاً بأم ما برح يحلم بها ويحنّ إلى لحظات جمعتهما معاً، جسداً بجسد. وهذا ما تنقله قصيدته «الشرفة»: «يا أمّ الذكريات/ يا سيّدة السيّدات/ يا أنتِ، كلّ ملذّاتي/ يا أنتِ، كلّ واجباتي/ أتتذكرين جمال اللمسات/ روعة الموقد، وسحر الأمسيات/ يا أمّ الذكريات/ يا سيّدة السيدات»... في الرواية وجه الأم في الشعر (القديم والحديث، العربي والغربي) يكاد يكون واحداً. وجه يُمثّل القدسية والمثالية والبراءة. أمّا في الرواية فمن الصعب إيجاد صورة موحدة عن الأم. ربما لأنّ الرواية هي فنّ ما هو كائن لا ما يجب أن يكون، فنّ يبلور التجربة الإنسانية من غير سلخها عن العالم الخارجي. فجاءت الأم في روايات نجيب محفوظ عظيمة في تلك الأشياء الصغيرة التي تقوم بها بـ «حبّ عظيم». فكانت قوية في ضعفها، سامقة في صبرها. بل رمزاً لثبات القيم ولمّ الشمل، تماماً مثل أمينة (في ثلاثية محفوظ) التي لطّفت بعطفها حياة قاسية في ظلّ والد مستبد كالسيّد أحمد عبد الجواد. وفي «بداية ونهاية» كانت النموذج البديل عن صورة الأب «الغائب». هي المرأة التي تحملّت أعباء الأبناء بصلابة تتماهى مع الحبّ. قد لا تتطوّر شخصية الأم داخل الرواية، وإن كانت هي ضمن الشخصيات الرئيسة، لأنّ ثمة أدوار محددة سلفاً منوطة بها، لكنّ هذه الفكرة السائدة عن دور الأم في الرواية (غربية كانت أم عربية) تدحضها رواية المغربي الفرنكوفوني إدريس شراييبي «الحضارة أمي». فالأم الفقيرة، غير المتعلمة، طموحة إلى حدّ تتجاوز فيه واقعها، بحيث تطلب من ولديها، إدريس ونجيب، أن تتعلّم القراءة والكتابة والحساب. وفي الروايات التي تحمل قضايا كبرى كالهوية والوطن والانتماء، تغدو الأم رمزاً للأرض، وهذا ما يرصده غسان كنفاني في رواية «أم سعيد مثلاً». لكنّ الفكرة هذه تتضّح أكثر في رائعة مكسيم غوركي «الأم»، وفيها تصير الأم - التي عانت ظلم الزوج السكّير ومن ثم الابن التائه - هي روسيا الأقوى من كل أزماتها. تزدحم السير الذاتية بنماذج مختلفة عن أمهات تركت كلّ واحدة منهنّ أثرها في ابنها/تها (الكاتب/ة) بطريقة مختلفة، ومنها «الكلمات» لسارتر، «طفولة» لنتالي ساروت، «قصر أمي» لمارسيل بانيول، «البحث عن الزمن الضائع» لمارسيل بروست... لكنّ أم مارغريت دوراس في روايتها السيرذاتية «سدّ في وجه الهادئ» تبقى هي الأكثر إثارة، أو ربما التباساً. فالأم هنا ذات قوة أسطورية، تواجه كلّ العقبات لتخرج منها شامخة كسنديانة، حتى وصل بها الحدّ إلى مقارعة الطبيعة، فقررت أن تبني السدّ في وجه الفيضان وإن كلّفها ذلك أن تدفع بابنتها إلى حضن ميلياردير يؤمّن لها ما تحتاجه لبناء ذاك السدّ. ولا يمكن أن نأتي على ذكر الأم في السير الذاتية من غير التوقف عند واحدة من أكثر الأعمال جرأة في هذا المجال. فالروائية اللبنانية حنان الشيخ قدّمت قصة حياة أمها كاملة - على لسانها - معلنة بصراحة حكاية خيانتها لزوجها مع الشاب الذي أحبّت، محمد. وتأتي هذه الأم بصورتها «الجريئة» لتكسر قالباً جامداً وضعت الأم داخله. لكنّ الشيخ لم ترصد حكاية الأم «الخائنة» ببعهدها الفضائحي، إنما أرادت أن تكون هذه الكتابة أشبه بمصالحة مع أمّ تركتها صغيرة لترحل مع من تحبّ. لذا تركت للأم/ الراوية هامشاً لتبرير «معصية» اقترفتها بعدما ارتكب المجتمع الجنوبي الفقير الذي أتت منه جريمة كبيرة بحقها، حين زُوّجت في «طفولتها» (14 سنة) من رجل لا تريده. عندما استهلّ ألبير كامو روايته «الغريب» بمطلع صادم يقول: «اليوم ماتت أمي، أو ربما البارحة، لا أدري» (الجملة الأشهر في الأدب الفرنسي)، أصيب القرّاء بما يشبه الهلع من شدّة برودة الراوي/ الابن، ميرسو، ولامبالته تجاه كائن مفترض أن يكون هو أحبّ الناس إلى القلب. لكنّ الصدمة الحقيقية تبلغ ذروتها في رواية جول فاييس «طفل» التي رصد فيها نموذج الأم «الشريرة». فمن خلالها ينسف فاييس كلّ معاني الحبّ والطيبة والتفاني التي التصقت طويلاً بمفهوم الأمومة. ينتقي أقسى النعوت لوصفها. يرسم شكلها بعين طفل خائف، مرتعد. فالأم هنا هي أقرب إلى صورة «الخالة» (زوجة الأب) في حكايات بيرّو أو غريم. هي المرأة المتسلّطة التي تفتتح الرواية على مشهد ضربها لابنها. أم يرتجف منها ابنها حين يخالف بنداً من قائمة ممنوعاتها الطويلة. «الأسود ملك الألوان. لا شيء يعطي قيمته كما اللون الأسود». هذا ما تردده دوماً على مسامع طفل تمنعه ارتداء الألوان الزاهية، والفرحة. مهما ابتعدت الأمكنة واختلفت الأزمان تبقى الأم في الأدب، كما في الحياة، أم لا تُمثّل سوى الخير في هذا العالم المليء بالشرور. وأيّ صورة أخرى هي حتماً صورة شاذة عن الطبيعة. صورة امرأة لم تحظَ بنعمة أن تكون أماً.