بدأت قصة الكتاب عند العرب والمسلمين مع نزول الوحي، إذ كان العرب قبلها أصحاب شعر ورواية ولم تكن القراءة والكتابة من الأمور المنتشرة في مجتمعاتهم، حيث إنه مع بداية الوحي، الذي كانت أول آية منه تنزلت على النبي العربي (صلى الله عليه وسلم) قوله تعالى: ﴿اقرأ﴾، وذلك قبل الأمر بتبليغ الرسالة والقيام بالدعوة ﴿قم فأنذر﴾، مهمة الأنبياء الأولى، وكذلك من قبل الأمر بالعبادة ﴿قم الليل إلا قليلا﴾ أو ﴿وربك فكبر﴾. وفهم الصحابة ذلك ووعوه، وبالأخص عندما نزلت في ما بعد آيات أخرى تؤكد دور العلم والعلماء مدعَّمة بكم كبير من الأحاديث النبوية، التي من أهمها قوله (صلى الله عليه وسلم): «الحكمة ضالة المؤمن...»، فبدأ بعدها ما يمكن أن نطلق عليه: رحلة العرب والمسلمين مع الكتاب، حيث أخذوا في أول أمرهم يدونون بعض الأحاديث النبوية والآيات والسور القرآنية أو بعض الأشعار على رقائق أو رُقَع من جلد أو صفائح عظم أو خشب، ولم تكن حركة الكتابة والتأليف قد بدأت بعد. وعندما استقر معاوية بن أبي سفيان في دمشق وكان من القلائل بين المسلمين الذين يجيدون القراءة والكتابة، ترجم له طبيبه ومستشاره ابن أثال بعضَ الكتب في الطب وأخرى عن أخبار فارس والأمم السابقة. وقام بعدها بفترة وجيزة الراهب اصطفان القديم بترجمة بعض الكتب في الطب والفلك والكيمياء لخالد بن يزيد بن معاوية، الذي يُنسب إليه بعض المؤلفات التي لم تثبت صحتها... ثم كانت أيام مروان بن الحكم فتمت ترجمة كناش الطبيب أهْرن، الذي كان مرجعاً طبياً مهماً، لتتابع عملية الكتب والمخطوطات طريقها بخطى وئيدة، حتى كان عهد عمر بن عبد العزيز، فنشطت حركة تأليف علمية ولكنها انحصرت بتدوين السيرة النبوية والأحاديث النبوية وبعض أخبار العرب وأشعارهم وذلك في رقائق غير منظمة في كتاب ذي موضوع واحد متناسق، بالإضافة إلى بعض الكتب التي كانت في مواضيع علمية مختلفة، من طب وفلك وأدب وشعر، لكنها تبقى محدودة، إلى أن كان العصر العباسي، أي بعد مرور أكثر من قرن على الفتوحات الإسلامية، وبعيداً من المدينة المنورة عاصمة الخلافة الأولى، حيث تبدلت وتغيرت مظاهر الحياة داخل المدن والحواضر بسبب الاحتكاك المباشر بالأمم والشعوب المختلفة من خلال الفتوحات بعد توطيد نظام الخلافة، وأصبحت صورة الخلافة التي كانت في عهد الخلفاء الراشدين لا تكاد تمت بصلة إلى ما وصلت إليه أيام العباسيين، وقبلهم الأمويين، إذ اندثرت تلك الصورة المبسطة المتقشفة لمجالس الخلفاء الراشدين، التي كانت تضم جمعاً من الصحابة، وتعقد في المسجد النبوي بالمدينة المنورة. وآتت دعوة الإسلام للعلم والتعلم أُكُلَها، وأصبح اهتمام أفراد المجتمع بالقراءة والكتابة والعلوم بصفة عامة يأخذ حيزاً مهماً في حياتهم ومجتمعهم، فأصبح كثير منهم أدباء ومؤرخين وعلماء كلام ورواية، وبعضهم قادة وولاة وقضاة، ما شكل تغيراً نوعياً وجذرياً في حياة الجماعة والأفراد ودورهم في المجتمع، وأيضاً في أسلوب التفكير والوعي وفي نوعية المعارف التي شاعت بينهم. فساهم ذلك كله في تحول بنية الدولة ومؤسساتها وتغيرهما، ولدى المثقف بشكل عام، وتولدت اتجاهات لدى العلماء وبعض الحكام لاكتشاف الآخر وعلومه وثقافته طالما أن ذلك لا يتعارض مع مبادئ الدين وأركان الإيمان، بل على العكس، حث عليه الدين. وفي خضم هذه الحركة العلمية والثقافية غير المسبوقة في تاريخ البشرية، استُحضر إلى قصر الخلافة ببغداد الطبيب جورجيس بن بختيشوع لعلاج الخليفة المنصور الذي استعصى وضعه الصحي على الأطباء المحيطين به، فرأى معه بعض الكتب الطبية فطلب منه أن يترجمها، وكان ذلك فاتحة جديدة للعلم والعلوم والعلماء في بغداد وفي ربوع بلاد العرب والمسلمين، حيث ما لبث أن أنشأ المنصور بعدها خزانة للكتب ضمت الترجمات والكتب التي كانت تؤلف ويهدى إليه بعضها، أو يُؤتى بها من أطراف الدنيا في العلوم والفنون المختلفة. وكان من بين ما ترجم حينها كتاب كليلة ودمنة، وكتاب إقليدس في الهندسة، وكتاب كبير في علم الفلك قام بترجمته محمد بن إبراهيم الفزاري وعنه أخِذ في ما بعد الكتاب الشهير في علم الفلك «السند هند»، وكل هذا في الوقت الذي بدأت عجلة حركة الكتابة والتأليف في بغداد وغيرها من ديار الخلافة تدور بسرعة مذهلة، حتى ليبدو للمطّلع على كتب التاريخ التي أرَّخَت لتلك المرحلة، أن العلوم والفنون والكتابة والنسخ قد غدت مرضاً بل وباء أخذ بالانتشار بسرعة وما من شيء يعيق سيره... إلى أن وجد المنصور أن خزانة كتبه لم تعد تتسع للكتب التي حوتها ولم تعد صالحة لاستقبال الأعداد الكبيرة من القراء والمطلعين المتوافدين عليها كل يوم، فأمر أن تفرد بمبنى خاص بها وبالتالي أخرجها من دار الخلافة وأصبحت حينها تضم قاعات للتعليم إلى جانب قاعات المطالعة. وقد بلغ الاهتمام بالكتب وتأليفها ذروته في أيام المأمون، الذي أعطى دار العلم اهتماماً خاصاً، حيث بلغ من اهتمامه بها أن أرسل إلى ملك الروم وفداً محملاً بالهدايا الثمينة على رأسه الحجاج بن مطر وبصحبته يوحنا بن البطريق، ليطلعوا على خزائن كتبه وليحملوا منها ما يرونه مناسباً، فعادوا بكمٍّ من الكتب في مختلف نواحي العلوم، لأفلاطون وأرسطو وأبقراط وجالينوس وإقليدس وغيرهم من علماء اليونان. وعندما تحقق للمسلمين الانتصار على ملك قبرص، هادنه المأمون وجعل من ضمن شروط الصلح أن يتخلى الملك القبرصي عن خزانة كتب اليونان التي بحوزته، فانصاع الملك القبرصي لذلك، وكادت فرحة المأمون بتلك الكتب توازي فرحته بالنصر الذي حققه الجيش. وقد وصف أبو العباس القلقشندي دار العلم هذه بقوله: «فكان فيها من الكتب ما لا يحصى كثرة، ولا تقوم عليه نفاسة، ولم تزل كذلك حتى دهمت التتر [المغول] بغداد». ولم تكن «دار العلم والحكمة» ببغداد التي تماثل دور النشر الوطنية في عصرنا الحاضر، وحيدة في مجال التعليم والترجمة وصناعة الكتب ونسخها، بل نجد أنه كان إلى جانبها دور كثيرة للعلم والحكمة، ففي كل مصر من الأمصار كانت هناك دار للحكمة وحركة علمية مصحوبة بترجمة بعض الكتب، وإن لم تأخذ البعد والشهرة اللذين كانت عليهما دار الحكمة في بغداد، ومن ذلك ما قام به الفاطميون، حيث أنشأوا مكتبة كبيرة أعطوها التسمية نفسها، ونقل إليها الحاكم بأمر الله الفاطمي من خزانة كتبه الخاصة وخزائن الأمراء ما يقارب ستمائة ألف مجلد، ليصل عدد مجلداتها الإجمالي إلى ما يزيد على مليون ونصف مليون مجلد. وقريب منه أيضاً ما رواه القفطي على لسان ابن سينا لدى دخوله مكتبة منصور بن نوح سلطان بخارى: «فدخلت داراً ذات بيوت كثيرة، في كل بيت صناديق كتب منضدة بعضها على بعض، في بيتٍ كتب العربية والشعر، وفي آخَرَ الفقهُ، وكذلك في كل بيت كتب عِلم مفْرد». وفي بغداد ذاتها، أنشئت إلى جانب دار العلم والحكمة في ما بعد مكتبات عدة، مثل مكتبة دار العلم التي أنشأها البويهيون في بغداد عام 338 ﻫ/ 998 م، ومكتبة المستنصرية ومدرستها التي أنشأها الخليفة العباسي المستنصر بالله. وكان إلى جانب هذه المكتبات الرسمية أو التابعة للحكام، مكتبات خاصة كثيرة كانت من الكبر والضخامة بمكان وكانت تفتح أبوابها لطلاب العلم، وتقوم أيضاً بالدور نفسه من حيث جمع الكتب في كل علم وفن وترجمتها ونسخها ومن ثم نشرها على المكتبات في أصقاع دولة الخلافة، ومن ذلك مكتبة أبناء شاكر التي ضمت ذخائر الكتب التي بذل أصحابها من أجلها مبالغ باهظة، وكذلك مكتبة الطبيب أمين الدولة بن غزال الذي بلغ عدد كتب مكتبته عشرين ألف مجلد، ومكتبة الطبيب أمين الدولة ابن التلميذ، التي نقلت بعد وفاته على اثني عشر جملاً إلى دار المجد بن الصاحب، ومكتبة الطبيب أفرائيم بن الزفان في مصر، حيث ترك بعد وفاته أكثر من عشرين ألف مجلد، ومكتبة الشريف الرضي، ومكتبة أبي نصر سابور بن أردشير، ومكتبة علي بن يحيى المنجم... وغيرها كثير من المكتبات التي لا تعد ولا تحصى. ولا بد من الإشارة إلى أن نهاية دار العلم المبرحة كانت على يد المغول عام 656 ﻫ/ 1258 م عند اجتياحهم بغداد، حيث أحرق بعض كتبها وأعدم وألقي بالبقية في نهر دجلة... ولا بد من الإشارة إلى أن عملية التأليف والكتابة والترجمة لم تقتصر على الإسلام والمسلمين فقط، بل كانت حالة عامة شملت كل الذين كانوا يعيشون في بلاد الخلافة وكنفها، على مختلف إتنياتهم وأديانهم، فألفت كتب عن الدين المسيحي وعقيدة التثليث، التي كان مؤلفوها أحياناً يردون على بعض علماء الكلام من المسلمين، ولم يلق أصحاب هذه الكتب إلا كل تقدير واحترام. وكذلك ألفت كتب كثيرة حول الديانات غير السماوية وشرحت عقائدها، كالمزدكية والصابئة مثلاً، إذ ألف ثابت بن قرة الحراني مجموعة من الكتب في شرح مذاهبهم وعقائدهم. وها هو ذا الطبيب المشهور أمين الدولة ابن التلميذ، الذي كان نصرانياً يؤلف كتاباً شرح فيه بعض أحاديث الرسول (صلى الله عليه وسلم) التي لها علاقة بالأمور الطبية، ليصبح كتابه هذا في ما بعد مرجعاً يُعتمد عليه في هذا الموضوع. وكذلك نجد أن يحيى بن عدي وكان من النصارى اليعاقبة، ينسخ بخطه الجميل عدة نسخ من تفسير الطبري، ويرسلها إلى ملوك الأطراف. أما في ما يخص ما كان يبذل للعلماء لدى تأليفهم كتاباً أو ترجمته، فإن الروايات حول ذلك كثيرة، وسوف نستعرض منها مثالين: الأول يتعلق بمقولة الطبيب جَبْرَئيل بن عبيد الله بن بَخْتَيشوع: “صنفت مئتي ورقة أخذت عنها ألف دينار». الثاني : ما رواه المؤرخون من أن حنين بن إسحاق كان يتقاضى من الخليفة المأمون وزن ما يقوم بترجمته ذهباً، مِثْلاً بمِثْل، ولذلك كان يختار من الورق أثقله ويفسح ما بين الكلمات ما استطاع. وفي الختام، لا بد من ملاحظة أمر هام، وهو أنه وُجد قبل البعثة المحمدية في أطراف الجزيرة العربية، أي في العراق وبلاد الشام، مدارس علمية في الصوامع والأديرة والبيع، وكان يعيش فيها مجموعة كبيرة من رجال الدين الذين كانوا على درجة رفيعة من الإلمام بالعلوم المختلفة وخصوصاً الطب والهندسة والفلك، ويعكفون فيها على التعليم والتأليف والكتابة باللغة السريانية والآرامية، وأحياناً باليونانية القديمة بالإضافة للعبادة.