المتعارف عليه أن نتوجه لأهل الميت لتقديم واجب العزاء والدعاء له بالرحمة والمغفرة، وحث الأهل على الصبر والاحتساب لتجاوز الظرف الحرج.. هذا الفعل الحميد هو ما يدعو له الدين الحنيف ويندب له دون النظر لعقيدة المُتوفى أو صلاحه من عدمه، وهل قُتل شهيداً أو غير شهيد، وهل ستكون نهايته في الجنة أو النار، فهذه غيبيات لا نعلمها ولا ندركها فعلمها عند الله وليس لنا في النهاية إلا الظاهر، أما الباطن فعلمه عند الله سبحانه وتعالى. قبل أيام فقدت إحدى الأسر بمدينة بريدة بالقصيم اثنين من أبنائها أكبرهم لا يتجاوز عمره الخامسة والعشرين سنة وكان مبتعثاً إلى إحدى الدول في أمريكا الشمالية، والآخر أصغر منه بقليل ويعيش في السعودية. عندما علمت بالخبر حزنت كثيراً لمعرفتي بالأسرة. أبلغني أحد القريبين أن الشابين قد غادرا إلى بلاد الشام قبل أشهر وبموافقة الأم بالذات للالتحاق بالجماعات المقاتلة، وذلك - حسب رؤيتهم - للجهاد والظفر بالشهادة، فكانا ضحيتين للقصف الجوي الكثيف حالهم حال عشرات الشباب الذين يفقدهم الوطن تحت مظلات أفكار ضالة يروِّج لها أصحابها، لذلك ليس غريباً أن نسمع كل يوم بمثل هذه الأخبار والفواجع.. طلبت من هذا القريب أن نذهب لتعزية ذويهم فضحك من قولي، ثم أردف والله إني أتفق معك تماماً وأنا ضد رمي شبابنا في المهالك، لكن إن كنت مُصراً على الذهاب فاعلم أنهم لا يستقبلون المعزين، وإنما يستقبلون من يقدم لهم التهاني بنيْل ابنيهما الشهادة، وأضاف: كثيرٌ من أمثال هذه العائلات غُرس فيهم هذا الفكر وغُذي عبر مشايخ الظلام، وعبر مواقع التواصل الاجتماعي.. حتى طلابنا المبتعثون للخارج على حساب الدولة يتم اصطيادهم وتغير أفكارهم بغسل أدمغتهم وتوجيههم للقتل مع الجماعات الإرهابية الخارجة عن القانون والتنظيمات الدولية في حروب طاحنة لا تعود عليهم ولا على أوطانهم بأي فائدة. يُصور لهم أن هذا هو الجهاد الحقيقي وأن نتيجته الشهادة ودخول الجنة، بينما في الواقع يستخدمونهم دروعاً بشرية حين يضعونهم أمام فوهات المدافع ولتضليل الطيران وأجهزة الرصد، فيموت العشرات منهم. الفكر الظلامي في هذه البيئات للأسف الشديد هو الطاغي على المشهد، وهي بيئات تعيش خارج الواقع ينتشر فيها الجهل وتعتنق المفاهيم الخاطئة، ويتغلغل فيها الفكر الضال. بعض الآباء والأمهات في هذه البيئات يشجعون أبناءهم للذهاب لميادين القتال، غير مدركين أنهم يدفعونهم للانتحار وليس للجهاد والاستشهاد. الشابان قُتلا حسب المعلومات الواردة أثناء وجودهما في مبنى مع مئات من الشباب تُركوا فيه وقيل لهم: ابقوا هنا وسنعود لكم عندما نحتاجكم، فأغارت عليهم الطائرات وقتلتهم. ببساطة تُركوا دروعاً بشرية وذهبوا ضحية لسوء الفهم والجهل. هذه البيئات تحتاج لجهود كبيرة لمحاولة توعية أفرادها بمناهج الجهاد الصحيحة، وتجنيب أبنائها ويلات الموت المجاني. كل من ذهب وقُتل في نظر هؤلاء شهيد يجب تهنئة أهله وذويه وليس تعزيتهم. مَنْ الذي ضمن لهؤلاء أنهم شهداء؟ كأنهم اطلعوا على الغيب فعرفوا. مثل هذه الحادثة وغيرها تستوجب تدخلاً عاجلاً من العلماء والمشايخ المعتبرين فقد تحوّلت سرادقات العزاء إلى حفلات لتبادل التهاني!