مكة المكرمة واس قال إمام وخطيب المسجد الحرام، الشيخ الدكتور صالح بن عبدالله بن حميد: إن الله خلق الناس من نفس واحدة، نفسٌ واحدة تكتسب بحكمة الله وقدرته أوصافاً، وتحمل سمات، وتعيش أحوالا، تتنازعها الشهوات والشبهات، والمحبوبات والمكروهات ولقد اعتنى القرآن الكريم بهذه النفس الإنسانية عناية تامة، لان الإنسان هو محل التكليف، وهو المقصود بالهداية والتوجيه والإصلاح. ومن شرح الله صدره للإسلام، وعمر قلبه بالإيمان اطمأنت نفسه، وهدأت سريرته، وتنزلت عليه السكينة، وامتلأ بالرضا قلبه. وأضاف ابن حميد: يقول في خطبة الجمعة التي ألقاها اليوم، بالمسجد الحرام،- عباد الله كم من مسلم تكالبت عليه الهموم فتوضأ وتطهر ثم قصد إلى زاوية من بيته أو مشى إلى مسجده فتلا من كتاب الله ما تيسر له أو صلى ما كتب له فانزاحت همومه وقام كأنما نشط من عقال، وكم من مسلم اضطجع على جنبه الأيمن في منامه وقرأ بعض آيات أو تلا بعض الأوراد فنام قرير العين محفوظا بحفظ الله، وكم من مسلم أصابه قلق أو وحشة فاستأنس بآيات من كتاب ربه فوجده نعم الأنيس وخيرَ الجليس، وكم من مسلم ناله فقر أو مسه جوع فوجد في كتاب الله شبعه وغناه، وكم من غني كاد أن يطغيه غناه فأنقذه مولاه بآيات من كتابه، فانكشف له الستار، وتذكر النعم، وابتغى ما عند الله. وأوضح أن الصالحون الطيبون المحسنون المشاؤون إلى المساجد هم المطمئنون بذكر الله، وهم الأقوى والأقدر على مصاعب الحياة وتقلباتها، لاتعكر التقلبات طمأنينتهم، ولا تستثير المنغصات سكينتهم. ومضى يقول معاشر المسلمين : هذا هو حال أهل الإيمان والصلاح بينما يتعذب ملايين البشر اليوم، يلهثون وراء المسكنات والمنومات، والعيادات والمستشفيات، ويبحثون في الكتب والمؤلفات والمقالات، أقلقهم القلق، وفقدت نفوسهم الأمن، قلقون من الموت، يخافون من الفشل، جزعون من الفقر، وجلون من المرض إلى غير ذلك مما تجري به المقادير على جميع الخلائق . وزاد ابن حميد: إن القلق انفعال واضطراب داخل النفس يعاني منه الإنسان حين يشعر بالخوف أو الخطر من حاضر أو مستقبل، والإنسان القلق يعيش حياة مظلمة مع سوء الظن بمن حوله وبما حوله، تغلب عليه مشاعر الضيق، والتشاوم، والتوتر، وعدم الثقة والاضطراب، بل يرى الناس عدوانيين حاسدين حاقدين. وأردف يقول : إن هذا القَلِقُ المضطرب قد جعل الدنيا أكبر همه فزاد قلقه، وطال أرقه، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له ثم تذكروا -رحمكم الله- هذا الدعاء : اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا أين الراحة إذا كانت الدنيا هي منتهى الأمل؟ وأين الطمأنينة إذا كانت الدنيا هي غاية السعي ؟؟. وأكد، الشيخ صالح بن حميد أن هدوء النفس وراحة البال نعمة عظيمة لا يعرف قيمتها إلا من فقدها، ومن أصابه الأرق أو دب إليه القلق عرف معنى هذه النعمة ومن فقد راحة البال تدلهم أمامه الخطوب، وتجثم على صدره الهموم، فيتجافى عنه النوم، ويفقد الراحة، وتظلم الدنيا في عينيه . وقال ابن حميد معاشر المسلمين : مساكين أهل هذا العصر حين يدرسون النفس الإنسانية مقطوعة الصلة بالله خالقِها ومدبِّرِها ومقدِّرِ أحوالها وشؤونها، يتكلمون عن أثر البيئة، وعن الأسرة، وعن الاقتصاد، ولا يتكلمون عن الهدى والضلال، والكفر والإيمان، والطاعة والعبادة فانقلبت عندهم المعايير، واضطربت لديهم المقاييس، وذابت الفضائل، وضاعت القيم، وانحلت الأخلاق، فلم تفد حلولهم، ولم تجد اختباراتهم ومختبراتهم من ضلالهم وانحرافهم. وواصل يقول وللإنصاف فقد انتقد عقلاؤهم هذا الانحراف المهلك في مبادئ هذه الحضارة وفكرها ونظرتها للإنسان ونفسه. فقال قائل من هؤلاء المنصفين: إن بيننا وبين الله رابطة لا تنفصم، فإذا خضعنا لله تحققت آمالنا وأمنيتنا، وحققنا أمننا وطمأنينتنا . وقال أخر: إن أعظم علاج للقلق هو الإيمان ويقولون : الإيمان والاستقامة كفيلان بإبعاد القلق والتوتر والشفاء بإذن الله من الأمراض النفسية . ويقول غيره: الصلاة اقرب طريق لبث الطمأنينة في النفوس وبث الهدوء في الأعصاب . وعرض الشيخ ابن حميد يقول: لا حصانة للنفس، ولا حفظ للمجتمع أعظمُ وأنجعُ وأسرعُ من الإيمان بالله والسيرِ على هدى الله . الإيمان ينشر الأمان ويبعث الأمل، والأمل يبعث السكينة، والسكينة تورث السعادة، فلا سعادة بلا سكينة، ولا سكينة بلا إيمان، فالإيمان هو الغذاء، وهو الدواء، وهو الضياء صاحب الإيمان راسخ العقيدة، حسن العبادة، جميل التوكل، كثير التبتل، عظيم الخضوع، طويل الخشوع، مديم الذكر، عميق الفكر، ملازم للعمل الصالح، واسع الصدر، عظيم الأمل، كثير التفاؤل لا يتحسر على ماضيه باكيا، ولا يعيش حاضره ساخطا، ولا ينتظر مستقبله خائفا قلقا يقول ابن القيم رحمه الله : لا تفسد فرحك بالقلق، ولا عقلك بالتشاؤم انك لو تأملت حالك لوجدت الله أعطاك أشياء دون أن تطلبها، فثق أن الله لم يمنع عنك حاجة رغبتها إلا ولك في المنع خير تجهله . وزاد فضيلته يقول عباد الله:المؤمن مؤمن بأقدار الله ومقاديره، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن والله هو الرزاق، ورزق الله لا يجره حرص حريص ولا ترده كراهية كاره، والمسلم يجمع بين التوكل والأخذ بالأسباب فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، فإن نفسا لن تموت حتى تستوفي رزقها وأجلها رواه ابن ماجه المؤمن يعيش وذكر الله شعاره، والتوكل على الله دثاره، وما تلذذ المتلذذون بمثل ذكر الله، ويُصدِّق ذلك ويجليه قول نبينا محمد صل الله عليه وسلم : دعوة ذي النون إذ دعا ربه وهو في بطن الحوت: لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجيب له أخرجه أحمد في مسنده، والترمذي في جامعه ومن الدقيق اللطيف عباد الله : ارتباطُ دعوات المكروب بتحقيق التوحيد يقول عليه الصلاة والسلام في دعائه : ( اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كله لا اله إلا أنت رواه أبو داود وقال لأسماء بنت عميس إلا أعلمُك كلمات تقوليهن عند الكرب : الله ربي لا أشرك به شيئا رواه أبو داود . وقال إمام وخطيب المسجد الحرام معاشر المسلمين: الالتجاء إلى الله والتوكل عليه وحسن الظن به من أعظم مفرجات الهموم وكاشفات الكروب وطاردات القلق التعلق بالله ودعاؤه من أعظم السبل لرفع القلق، كيف وقد كان نبيكم محمد صل الله عليه وسلم إذا أكربه أمر قال يا حي يا قيوم برحمتك استغيث رواه الترمذي وفي الحديث الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صل الله عليه وسلم قال : ما من مؤمن يصيبه هم أو غم أو حزن فيقول : اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك اللهم بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو علمته أحد من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن الكريم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي إلا فرج الله عنه . رواه أحمد في مسنده وبعد. وختم الشيخ صالح بن حميد قائلاً أما بعد : معاشر المسلمين: أما ما كان من القلق حافزاً إلى الخير وباعثاً على العمل فهو قلق محمود، بل هو خير وفضل ونعمة فالمحاسبة، والقلق خشية التقصير من صفات المؤمنين المخلصين، أما عدم الاكتراث والمبالاة فمن صفات المنافقين يقول الحسن رحمه الله : المؤمن أحسن الناس عملاً، وأشد الناس خوفا، فالمؤمن لا يزداد صلاحا وبرا وعبادة إلا ازداد خوفا ويقول:لا أنجو، إنه يخشى عدم القبول المؤمن لا يخاف إلا الله، يخاف أن يكون فرط في حقه، أو اعتدى على خلقه، كما قال أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام. وفي المسجد النبوي: تحدث فضيلة إمام وخطيب المسجد النبوي الشيخ عبد المحسن القاسم في خطبة الجمعة عن خصلة عظيمة جعلها الله سبحانه وتعالى بين خلقه ألا وهي الرحمة قال عليه الصلاة والسلام إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة فأمسك عنده تسعاً وتسعين رحمة، وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة. وقال إمام وخطيب المسجد النبوي أن الله سبحانه وتعالى يحب من يتصف بالرحمة ويثني على عبادة المتواصين بها متشهدا فضيلته بقول الله عز وجل (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وتواصوا بالصبر وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ ) فضلها سبحانه وتعالى على العلم وبها يقوم أساس القيام بحقوق العباد من الحقوق الواجبة كالزكاة والمستحبة كالصدقة. وأبان فضيلته أن الرحمة منحة من الله سبحانه يهبها لمن يشاء من عباده ومن أراد الله عز وجل بعبده خيرا أنزل في قلبه الرحمة متشهدا بقول الله عز وجل (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ) ونصيب كل عبد منها على قدر نصيبه من الهدى فأكمل المؤمنين إيمانا أعظمهم رحمة. ومضى الشيخ عبد المحسن القاسم قائلاً إن امتلاء القلب بالرحمة سبب لنيل رحمة الله عز وجل مستشهد بقول الرسول عليه الصلاة والسلام الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ وأن قسوة القلب تكون بفراغه من الرحمة وهذه هي علامة الشقاء قال عليه الصلاة والسلام لا تنزع الرحمة إلا من شقي ومن لا يرحم الخلق لا يرحمه الله مستشهدا فضيلته بقول الرسول عليه الصلاة والسلام لا يَرْحَمُ اللَّهُ مَنْ لا يَرْحَمُ النَّاسَ وأنكر الرسول صل الله عليه وسلم على من استنكف من اليسير من آثار الرحمة . وأكد فضيلة إمام وخطيب المسجد النبوي أن أولى الناس بالرحمة الوالدان قال المولى عز وجل ( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاح الذُّلّ مِنْ الرَّحْمَة ) وخير الأولاد من كان أقرب إلى رحمة والديه مشيراً فضيلته إلى أن رحمة المؤمنين فيما بينهم تجعلهم كجسد واحد يقول النبي صل الله عليه وسلم تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وتعاطفهم كمثل الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى منه عُضْو تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بالسهر والحمى. وبين أن الشرع قد حث المؤمن على رحمة للكافر لفقده الهداية فمن زلت قدمه في المعاصي يستحق الرحمة بالنصح والدعاء له بالهداية. وأكد إمام وخطيب المسجد النبوي أن أشد الخلق رحمة هم رسل الله عز وجل سعوا لهداية الخلق ودعوا بكل سبيل لإنقاذهم من التهلكة وصبروا على أذاهم ولم يستعجلوا بطلب عذابهم ونبينا محمد صل الله عليه وسلم أرحم خلق الله ومن أسمائه نبي الرحمة فلما قيل له أدعوا على المشركين قال إني لم أبعث لعانا بعثه الله عز وجل رحمة للخلق عامة مستشهداً فضيلته بقول الله تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ). وخلص إمام وخطيب المسجد النبوي في نهاية خطبته أن الشريعة قد وسعت برحمتها وعدلها العدو والصديق فالجزاء من جنس العمل فمن طمع في الله فليرحم خلقه قال عليه الصلاة والسلام إنما يرحم الله من عباده الرحماء فمن رحمه الله غمرته السعادة ونال المرام