مثّل تأثير إيران في العراق في المرحلة اللاحقة لسقوط نظام صدام حسين نفوذا طاغيا لا يوازيه أي نفوذ، وقد أخذ أبعادا متعددة. لكن الذي حصل أن هذا النفوذ الذي تعاظم بعد الانسحاب الأميركي نهاية عام 2011 برز في نهاية المطاف ضعيفا وليس محكما، عندما سيطر تنظيم داعش على عدة محافظات وكاد يهدد بغداد في صيف العام الماضي، وأيضا عندما تم ترشيح العبادي لرئاسة الحكومة، وهو لم يكن برغبة إيرانية. وقد عكس هذا الأخير وجود تيار سياسي شيعي عراقي لا يستهان به يحاول أن يناور ويستغل الأوقات المناسبة للخروج من الوصاية الإيرانية ويحقق نوعا من التوازن والمصلحة العراقية الوطنية في العلاقة مع إيران. تريد إيران أن تحسم مسألة هيمنتها على العراق بشكل نهائي وتُخضع الجميع لإرادتها؛ بحيث تصبح لها الكلمة العليا في إدارة العراق سياسيا وأمنيا واجتماعيا واقتصاديا وإعلاميا، وأحيانا حتى ثقافيا، ولكن إيران تريد أن تكون أداتها في الهيمنة الميليشيات التابعة لها؛ التي تدين بالولاء الديني والسياسي لأعلى مراتب السلطة في طهران. وبالفعل وجدت إيران فرصتها بفتوى المرجع السيستاني، وصارت تدفع الميليشيات المنظمة التابعة لها للسيطرة على قوات الحشد الشعبي. وقد ساعدها في ذلك ضعف القوات الأمنية الرسمية، الذي مهد لها الطريق كي تنشط في مختلف المناطق وتزيد من مكاسب نفوذها - ومن خلفها الراعي الإيراني - خصوصا في ظل الاستحقاقات التي يفرضها النصر الذي يمكن أن تحققه في الحرب على «داعش». ومما يزيد حماسة إيران على التفكير بهذا المنهج هو أنها وجدت حكومة العبادي صارت تنحو باتجاه محاولة تحقيق توازن في علاقات العراق مع جيرانه ومحيطه العربي، وهذا ما جعل طهران تمارس الضغوط الغليظة بعمل ممنهج للإبقاء على العراق سابحا في فلكها. وأحد عناصر هذا العمل الممنهج، ترسيخ القناعة بأنها والميليشيات التي تدين بالولاء للمرشد الأعلى أصبحت «ذات فضل» في تخليص العراق من «داعش». وفي سياق ترسيخ هذه القناعة في الإدراك الجمعي العراقي انتشرت شائعات تتعلق بقيام طيران التحالف الدولي بتقديم مساعدات لتنظيم داعش. وفي الإطار نفسه، انتشرت صور خامنئي في ساحات بغداد وشوارعها، وكذلك صور رموز زعماء ميليشيات الحشد الشعبي خصوصا أولئك الذين يدينون بالولاء للمرشد الإيراني، فضلا عن الإشادة المتكررة على لسان ساسة وزعماء في ميليشيات الحشد الشعبي بالمساعدات الإيرانية والدور الإيراني ودور الجنرال قاسم سليماني و«فضله في الدفاع عن بغداد في وجه داعش، الذي لولاه لكانت حكومة العبادي قد تشكلت في المنفى». جاء صعود التيارات الدينية والتداخلات التي فرضتها سنوات الإرهاب وصعود السياسات الطائفية في الممارسة السياسية ليكمل الحلقة باتجاه تبلور ظهور «القومية الطائفية»، بمعنى تحول الانتماء للطائفة والمذهب إلى قومية متعصبة، ومن شأن ذلك أن يلحق شيعة العراق بالقومية الدينية القائمة في إيران. ويبدو أن إيران تعمد إلى استغلال تطورات التغوّل الداعشي في العراق وما تبلور عن تجربة الحشد الشعبي في مواجهة «داعش» ليشكلا الرافعة لصعود القومية الطائفية عبر صناعة رموز وأبطال في هذه المواجهة، لا ينتمون للوطن بل ينتمون للطائفة والمذهب. والدليل على مثل هذا التوجه هو الخطاب الإعلامي والسياسي لمعظم الميليشيات التابعة للحرس الثوري والمنضوية في إطار الحشد الشعبي الذي يدور حول «المقاومة والكبرياء الطائفية للشيعة»، بينما نجد الخطاب الإعلامي والسياسي للميليشيات الأخرى المنضوية في إطار الحشد الشعبي لكن غير المرتبطة بإيران، يدور حول «الدفاع عن الوطن والمقدسات» بشكل عام. وفي ظل هذه الأوضاع يجد العبادي والتيار الشيعي الذي يمثله نفسه محاصرا، بعد أن أصبح أتباع النفوذ الإيراني في أوساط شيعة السلطة أقوى خلال سنوات حكم المالكي وصارت عناصره مرتبطة بمصالح، كما أنهم أصبحوا أكثر شراسة بعد استبعاد المالكي من الولاية الثالثة، ويحاولون الانقضاض على التيار الذي يمثله العبادي، لا سيما أن تيار العبادي يرغب في الاستناد إلى الدولة ومؤسساتها، بينما الدولة منخورة من الداخل ومؤسساتها ضعيفة ويسيطر عليها أتباع، إما بوصفهم تابعين للمالكي أو بكونهم مرتبطين بإيران. وربما - بسبب ذلك - أصبحت القدرة القتالية لميليشيات تابعة لإيران تتفوق على قوات الحكومة العراقية في جاهزيتها. ونتيجة لذلك يبدو التيار الذي يمثله العبادي - وإن كان مدعوما على نطاق شعبي واسع - محاصرا وغير قادر على مواجهة التيار الآخر الذي يمثله أتباع إيران.