×
محافظة حائل

كنز من المجوهرات الضائعة يعرض في متحف لندن

صورة الخبر

تميل الأفئدة صوب المدينة المنورة وتهتز طرباً إذا حان الرحيل إليها وتغمرها مشاعر الفرحة وهي يتراءى لها الحجرة الشريفة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام؛ بل ويزداد هذا الشعور جمالاً حين تعلم أنها ستقضي أيامها في رياض الجنة بين ركوع وسجود وتبتل، هذا ما أوحاه لي علامة الشام الشيخ جمال الدين القاسمي الدمشقي (1283 – 1332ه) حين تشرف بزيارة مدينة المصطفى عام (1328ه) وطاف على مكتباتها ونسخ ما شاء الله له أن ينسخ من مخطوطاتها، كل ذلك قد دونه في كتاب وأخرجه تحت عنوان "رحلتي إلى المدينة المنورة" وقام على تحقيقه الشيخ محمد بن ناصر العجمي وأصدرته دار البشائر الإسلامية مع مساهمة في طبعة من قبل إحدى المحسنات بالمدينة المنورة. هذا وقد أودع المحقق العجمي في مطلع الكتاب مشاعر جياشة كتبها أمير البيان شكيب أرسلان (1286 – 1366ه) تجاه علامة الشام جمال الدين القاسمي فقال عنه نفيس الكلام ووصفه بأجمل الصفات، ومن أجمل ما قاله عنه: كان في هذه الحقبة الأخيرة جمال دمشق وجمال القطر الشامي بأسره في غزارة فضلة وسعة علمه وشفوف حسه وزكاء نفسه وكرم أخلاقه وشرف منازعه. وقد عرف عن الشيخ جمال الدين القاسمي شغفه بالرحلات وعشقه لها وسبق هذه الرحلة جملة رحلات دونها في كتب، ومن أهم هذه الرحلات، رحلته إلى بيت المقدس عام (1321ه) وفي آواخر نفس السنة ارتحل إلى مصر، لذا فإن صاحب هذه الرحلة على خبرة في مجال الرحلات والتزود بالمعارف في هاتيك البلدين. الرحلة إلى طيبة الطيبة دامت ستة عشر يوماً منذ أن انطلق بهم القطار الحجازي يوم الاثنين (24 ربيع الأول عام 1328ه) حتى قفل راجعاً نحو دمشق يوم الثلاثاء (9 ربيع الآخر) من العام نفسه. وقد اتخذ الشيخ القاسمي تدوين رحلته بذكر الأيام وتاريخها، فلا يترك يوماً دون أن يدون ما جرى فيه وما وقع له ومن قابل فيه. تعالى صفير القطار مؤذناً بمغادرة دمشق الفيحاء وعلى متنه صاحب الرحلة الشيخ القاسمي ومعه صهره خليل بك العظم وشقيقه عبدالله بك العظم وانطلق القطار ينهب القفار ويخترق النجود حتى وصل إلى محطة (القطرانة) فمكث بها غير قليل ثم واصل سيره نحو (معان) وما ان هبط الليل حتى تراءت لركاب القطار مدينة (تبوك) وتوقف بها قرابة الساعتين ولم يستطع شيخنا القاسمي التجول في تبوك لظلمة الليل، وبعد هذه السويعات زحف القطار في غلس الليل حتى كانت (مدائن صالح) موقفاً له، فنزل القاسمي وتجول في أنحائها ورأى اندكاك بيوتها وتقطع جبالها ثم استقل القطار حتى توقف به في محطة (هدية)، فهبط منه للوقوف على قبر السيد محمد الدسوقي ودعا له بالرحمة، ثم صعد القطار ميمماً مدينة المصطفى حتى وصلها أصيل النهار يوم الخميس (27 ربيع الأول) فأخذت دموعه تهطل ولسانه يردد الصلاة والسلام على رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، فانحدر نحو الحرم النبوي الشريف لأداء صلاة العصر وبعدها تشرف بالسلام على نبي الهدى والرحمة ثم اتجه نحو القبلة ودعا الله له ولجميع المسلمين حتى انصرف إلى بيت قريب له على مقربة من باب المجيدي. هجع الشيخ القاسمي بعد عناء هذا السفر واستيقظ في الهزيع الأخير من تلك الليلة متجهاً نحو المسجد الشريف وصلى فيه ما استطع أن يصلى حتى أعلن المؤذن عن فجر يوم الجمعة فصلى الفجر مع الإمام، وفي ضحى ذلك اليوم ذهب إلى حمام يسمى حمام النبي في حارة قبلي ثم عاد إلى الحرم النبوي قبيل صلاة الجمعة بنحو ساعة ونصف الساعة وبقي في الروضة الشريفة حتى حانت الخطبة والصلاة فاستمع وصلى ثم عاد إلى المنزل ماكثاً فيه حتى نودي لصلاة العصر وبعد أن أدى الصلاة في الحرم سار مع صديقه علي بك المؤيد الذي قد سبقهم إلى المدينة وساروا جميعاً نحو البقيع لزيارة الصحابة الأطهار وكان المؤيد دليلهم في هذه الزيارة، وعلى هذا المنوال سارت أيامه في المدينة وانقضت لياليه لكنه لم يفرط في زيارة مسجد قباء مع من كان معه من الصحب وزاد عليهم صديقه النجدي الشيخ عبدالله الرواف حيث استقلوا عربة توصلهم إلى المسجد وشاهدوا في طريقهم حدائق النخيل التي كانت تحف بالطريق وتوقفوا لمشاهدة بئر أريس الذي سقط فيه خاتم النبي صلى الله عليه وسلم. لم يغفل الشيخ جمال الدين القاسمي عن زيارة مكتبات طيبة الطيبة فقد غشي معظمها باحثاً ومنقباً وقارئاً، ففي ضحى يوم الأحد (30 ربيع الأول) زار مكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت (1200 – 1275ه) ذات النفائس العلمية والذخائر الثقافية، وشاء له الله أن يطلع على أجزاء من فهارسها وانتخب كثيراً من نفائسها للمطالعة ثم شرع ينسخ منها كتاب (شرح منظومة ابن البواب البغدادي) وحين عاد الشيخ القاسمي للدار، دارَ في خلده أن يعود لمكتبة عارف ضحى اليوم الثاني (الاثنين) فَكَّر عائداً لها وأتم فيها نسخ الرسالة السابقة الذكر حتى الظهر ورجع إلى الحرم النبوي للصلاة، وانطلق بعيد الصلاة لزيارة قريبته السيدة فاطمة الغبرا وقابل زوجها الشيخ أبو الخير حمدان الدمشقي ثم خرج من بيتهم يعود المكتبة المحمودية مطالعاً طرفاً من فهارسها ووقف على كتاب "المحلى" لابن حزم ونسخ منه مقدمتيه، ويشير صاحب الرحلة أن دوام المكتبات في تلك الحقبة كان يبدأ من فترة الضحى حتى العصر ثم تغلق أبوابها أما في يومي الثلاثاء والجمعة فلا تشرع أبوابها لأحد لانهما من أيام الإجازة الإسبوعية. كانت زيارة سيد الشهداء سيدنا حمزة رضي الله عنه في قائمة جولات الشيخ حيث ذهب مع صحبه وصديقه الرواف ودعا لشهداء أحد ثم جال مع رهطه في ذلك الوادي وشاهد ما فيه من آثار، عاد شيخنا إلى مكتبة المحمودية وتمم نقل مقدمة "المحلى" وابتاع من أحد المكتبات كتاب "وفاء الوفاء" للسمهودي بمجيديين وعاد القاسمي في اليوم التالي إلى مكتبة المحمودية ونسخ منها بعض مسائل في الأصول وعند الظهر يمم صوب مكتبة عارف حكمت ودوَّن أسماء لكتب مهمة في علم الكلام واللغة. لبى الشيخ القاسمي دعوة من السيد أحمد البرزنجي مفتي الشافعية في المدينة المنورة، فرحب به وابتهج وتبادل معه غرائب الأخبار وسير المتقدمين وأثنى على كتابه "دلائل التوحيد" ودعا له وأهداه كتاب أخيه السيد جعفر البرزنجي الموسوم ب"ذيل تاريخ المدينة". أما يوم السبت (6 ربيع الثاني) عقد شيخنا العزم على العودة إلى دياره دمشق فصلى الفجر في الحرم النبوي ودعا في الروضة الشريفة وأكثر من السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعند الضحى سار نحو المحطة وبعيد الظهر انطلق القطار صوب الشام داعياً الله وراجيه ألا تكون هذه الزيارة آخر عهده بتلك البقاع الشريفة، وقد توقف في عودته بنفس المحطات التي مر عليها وقت قدومه حتى وافى الشام عند عشاء الثلاثاء (9 ربيع الثاني) وقد بلغ ما صرفه كل واحد من الرفقه (1128.5) قرشاً. إجازات العلامة القاسمي لقد راق للمحقق الشيخ العجمي – جزاه الله خيراً - أن يبرز للقارئ دور صاحب الرحلة العلمي ومكانته بين علماء ذلك العهد فأرفق في الكتاب إجازات الشيخ جمال الدين القاسمي وهو من هو لعدد من علماء عصره الأفذاذ النابغين على الأقران الذين اهتبلوا فرصة وجودهم في دمشق فكان الشيخ مقصدهم وإجازاته مطلبهم وهؤلاء العلماء هم الشريف محمد بن جعفر الكتاني الإدريسي صاحب كتاب "المواقف الإلهية في التصورات المحمدية" والشيخ السيد محمد عبدالحي الكتاني صاحب مصنف "فهرس الفهارس" والغريب أن إجازة القاسمي للكتاني جاءت على هيئة قصيدة نافت على العشرين بيتاً ومنها: من لطفه رام مني أن أجيز له ما قد رويناه مما الثبت جامعه فقلت عفواً أقلني من طلابك ذا فأنت أولى بهذا لي وشائعه لذا جسرت فقدمت الإجازة لل حبر السري وغدا فكري يطاوعه أما ثالثهم فهو الشيخ الجليل أحمد محمد شاكر صاحب المصنفات المعروفة ومحقق مسند الإمام أحمد و"الرسالة" للشافعي و"الشعر والشعراء" لابن قتيبة.