تفكك الدول والمجتمعات في المشرق العربي يغري الحالمين باستعادة أمجاد الإمبراطوريات القديمة. ويدفع الاستعمار القديم إلى محاولة تجديد نفسه واستعادة نفوذه في هذه المنطقة المهمة، بعدما خسرها لمصلحة الولايات المتحدة في خمسينات وستينات القرن الماضي. نبدأ بـ «داعش»، وهو أبرز الساعين إلى استعادة الماضي. هدم التنظيم الحدود الجغرافية بين سورية والعراق، ورفع مكانها حدوداً في الاجتهاد والتأويل والإفتاء أشد وأعمق تأثيراً في النفوس. وراح يفرض نمطاً من الحياة والثقافة تجاوزهما الزمن والتطور. حتى القائمون على «ديوان الحسبة» المكلفون مراقبة الناس وتربيتهم والاقتصاص منهم لا يعرفون قوانين الشريعة ولا القوانين الوضعية. ويعتمدون على تفسيرهم الضيق للتاريخ والاجتماع والعمران. أبعد من ذلك، لجأ مسلحو التنظيم، بفتوى من مشايخهم إلى الاقتصاص من الحضارات القديمة بهدم ما بقي من معالمها، لأنها أصنام، والأصنام محرّمة في الإسلام. لكنهم لم يأخذوا في الاعتبار أن أحداً اليوم لا يتعبد لها، حتى الذين ما زالوا يطلقون على أنفسهم، أو نطلق عليهم، اسم تلك الحضارة العريقة (الآشوريون) أصبحوا مسيحيين ولا يعبدون الثور المجنّح، كما أن الآشوريين القدماء لم يكونوا يعبدون هذه النصب. بل كانت تعبيراً عن القوة والحكمة. من أحلام «داعش» إلى أحلام أردوغان. منذ وصوله إلى السلطة لم يضيع «السلطان» فرصة إلا وذكّر بأجداده العثمانيين، وطموحه إلى تجديد إمبراطوريتهم، معتبراً سورية والعراق وكل الدول العربية ولايات تابعة له. ولم يترك وسيلة إلا استخدمها لتحقيق هذا الحلم. فدرب مقاتلين وسلحهم وأرسلهم إلى سورية، وليس سراً أنه على علاقة قوية مع «داعش» و «النصرة»، وأنه يستخدم مفهومه للإسلام لتبرير عداواته وصداقاته وما يرتكب. ولم يعد خافياً على أحد أنه حول تركيا من نموذج للتصالح، أو التزاوج، بين الإسلام والديموقراطية إلى نموذج لحكم «الإخوان المسلمين» استلهموه في مصر وفشلوا ويحاولون استلهامه في غيرها. من تركيا إلى إيران التي لا تخفي طموحها في مد نفوذها إلى المشرق. ونجحت فعلاً في العراق وسورية، وإلى حد ما في لبنان وفلسطين، مستخدمة «قضية العرب الأولى» وتخليهم عنها لاستقطاب شعوبهم. وجاءت تصريحات نائب الرئيس للشؤون الدينية علي يونسي الذي أكد ما كانت طهران تعتبره هواجس لدى العرب، حين قال إن بلاده «أصبحت الآن إمبراطورية، كما كانت عبر التاريخ، وعاصمتها بغداد، وهي (أي بغداد) مركز حضارتنا وثقافتنا كما كانت في الماضي». كلام يونسي صحيح في جزء منه. أعني الجزء المتعلق بالثقافة الإسلامية الإيرانية، فهي فعلاً تشكلت في العراق. لكن أن يستخدم هذا الواقع لتحقيق أحلام إمبراطورية فمسألة أخرى تصدى لها ودحضها المرجع الشيعي علي السيستاني نفسه. ننتقل إلى فرنسا وبريطانيا اللتين لم تقتنعا بعد بأن مستعمراتهما استقلت عنهما من عشرات السنين. باريس في ظل حكم هولاند الاشتراكي هي نفسها في ظل ساركوزي اليميني. همها الأساس عودة نفوذها إلى سورية ولبنان، مستظلة بالموقف الأميركي. وما زال رئيسها نادماً على عدم مهاجمة سورية عام 2012 عندما كان جيشه متأهباً لذلك وخذله الرئيس الأميركي. أما كاميرون الذي يدرك تماماً ضعفه العسكري وعدم قدرته على شن حرب من دون الولايات المتحدة، فيسعى إلى مشاركتها غزواتها لتحقيق بعض من أحلامه الإمبراطورية. تبقى الإمبراطورية الحقيقية أو الواقعية، أي الولايات المتحدة. أميركا تدافع عن مراكز قوتها. وهي تخشى التمدد الروسي إلى المشرق العربي، عبر إيران التي نجحت في الوصول قبل موسكو إلى البحر المتوسط. من هنا عودتها العسكرية إلى العراق، وتشبثها بالتغيير في سورية التي تشكل واسطة العقد في هذا التحالف، من يسيطر عليها يسيطر على المشرق كله. كل هذه الإمبراطوريات تتصارع في المشرق وعليه. أما شعوبه وحكوماته فبعضها ضالع في الصراع إلى جانب هذا الطرف أو ذاك، وبعضها ضعيف، وثالثها تفتك به الطوائف والمذاهب. الأحلام الإمبراطورية كثيرة. تحقيقها باهظ الثمن. ثمنها قتل الإنسان وتدمير الثقافات والهويات والتخلف والفقر.