لم يعد الأمر مثار جدل كبير. الثقافة مساحة أوسع من الآداب والفنون الجميلة. فهي، في تعريفها الشمولي، كل المنتج الروحي الذي تنجزه الشعوب لخلق توازن في نظامها الحياتي الذي تطغى عليه السبل المادية وإن خُضِّعت الثقافة أيضا لهذا النظام الاستهلاكي. غياب الثقافة كفعل إنساني حيوي، يخلّف حتما وراءه فراغا كبيرا في البنية الروحية للأفراد والأمم. لا نستغرب اليوم ما يحدث في العالم العربي من اهتزازات عنيفة وممارسات في ظل غياب شبه كلي لهذا العنصر الناظم الذي يمنح المعرفة والقدرة على التسامح والتعامل مع الآخر لا كعدو، ولكن كإمكانية جديدة لتوسيع الأفق الذاتي حتى لا يبقى رهن الضيق واليقين الأعمى. لأفول الثقافة بمعناها الأكثر إنسانية دور أساس فيما يُمارس من قسوة على الجسد العربي. القرن الأخير المثقل بثقافة الهزائم العربية والانهيارات والتمزّقات الاستعمارية، كان الأرضية الخصبة التي أنشأت هذا الجفاف الثقافي بعد أن أفرغ الإنسان من كل مساحة من النور الداخلي، فاختل توازنه ودبّ اليأس إلى داخله. أن تسمع الموسيقى في بيتك وتحلق مع نغماتها، أن تتأمل اللوحات والألوان المتداخلة وتحبها، أن تتابع السينما بكل منجزها الفني والجمالي، أن تهذب الداخل وتغنيه بقراءة رواية أو أي عمل أدبي ينشط المخيال، أن تسمع سيمفونية تدفع بك بعيدا خارج مدارات الحياة الجافة والقاسية، هذا يعني أن الإنسان ما يزال في عمق الحياة وفي صلب قيمها العالية والنبيلة. أين نحن من كل هذا اليوم؟ تبدو الثقافة العربية اليوم خارج كل هذه الإمكانات، في وضع شديد الخطورة على كيانات الدول التي تشكلت في المائة سنة الأخيرة. بين وضع اجتماعي مزرٍ للإنسان العربي، وثقافة لا تجد مكانها إذ تحولت إلى مساحات ضيقة، أصبحت الخيارات نحو العدمية حتمية. نتساءل أحيانا أين ذهب كل الجهد العربي عبر عشرات السنين، وأين انتهى هذا الكم من الورق الذي يحتوي على الأفكار التي لا تقل تنويرية وعقلانية عما يُنتج عالميا، على الرغم من أن الثقافة هي الأداة التي بإمكانها أن ترمم الكسور وتخلق فرص التغيير الذاتي والمجتمعي الأغنى؟ يجب أن ننتبه في العالم العربي إلى أن هناك جيلا كاملا عدديا، قضى كل سنواته أو جلها في التنقل والحروب والملاجئ والمخيمات، لا علاقة له بالمدرسة في العراق وسوريا والسودان والآن ليبيا واليمن وغيرها. كيف سيكون هذا الجيل، في ظل الانهيارات المتلاحقة التي خلفت وراءها عنفا شديد القسوة، وخوفا من الآتي المجهول ومن مستقبل غير مريح يتم تصنيعه الآن. كل الوسائط الناقلة للثقافة انهارت عربيا، على عكس ما كانت عليه منذ الخمسينيات حتى الثمانينيات، كالسينما، والأوبرا والمسرح، والكتاب وغير ذلك. الأمسيات الشعرية الضخمة التي كانت تملأ الملاعب ليس فقط لأن الشعراء كانوا كبارا، كمحمود درويش ونزار قباني وغيرهما، لم تعد اليوم ممكنة. فقد كان الأمل في عالم أفضل قائما على الرغم من الصعوبات، حتى في الهزائم والظروف الأشد سوادا. لهذا أصبح تفعيل الثقافة أكثر من ضرورة حضارية وحياتية اليوم، لإدراك قطار الحياة والتفتح وتجنب الانغلاق.