×
محافظة المنطقة الشرقية

القبض على 5411 مخالفاً بجازان خلال أسبوع

صورة الخبر

قراءة رواية «الرغيف» التي أصدرها الروائي اللبناني الرائد توفيق يوسف عواد عام 1939 مترجمة إلى الفرنسية، تختلف كثيراً عن قراءتها بالعربية أو بلغتها الأم. هذه الرواية التي تُعدّ من أمهات الرواية اللبنانية، بدت في ترجمة الكاتبة الفرنكوفونية فيفي أبو ديب كأنها تنفض عن نفسها صفة البداية الريادية الأولى لتلتحق بالحركة الروائية المعاصرة، بصفتها رواية تاريخية ذات منحى واقعي. في هذه الرواية التي تدور أحداثها في مناخ الحرب العالمية الأولى سعى عواد إلى إنجاز النقلة الجادة من الأدب الروائي إلى الفن الروائي المتحرر من طغيان الإنشاء السردي الذي عرفته الحقبة الروائية العربية الأولى بين أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. حينذاك كانت الرواية العربية تعيش بداياتها «المتعثرة»، الأدبية أو الإنشائية والرمزية والأخلاقية أو «الإتيكية»، وهي أثارت لاحقاً سجالاً نقدياً حول «الأسبقية» الروائية. لكن صاحب «الرغيف» المعروف بنثره الراقي (الروائي والقصصي) لم يتخلَّ عن نزعة لديه إلى البلاغة والصناعة المتقنة، سبكاً وتخير ألفاظ وتفنناً في فن السرد. ولعل ما يلفت في ترجمة أبو ديب هو تخطيها عقبات البلاغة وقاموسية المفردات والمترادفات التي تبدو بيّنة في النص الأصل. ولعل «صناعة» المترجمة هذه جعلت قراءة النص المترجم محفوفة بـ «لذة» القراءة وبساطتها التي تخفي تمرساً في اللغة الفرنسية. وهذه الترجمة المتقنة جعلت الرواية تبدو كأنها كتبت الآن عن حرب وقعت قبل عقود. ويمكن القول أن الترجمة أعادت إحياء هذه الرواية التي تّعدّ من كلاسيكيات الأدب اللبناني والعربي، لا سيما أنها مدرجة في البرامج المدرسية والجامعية. كانت «الرغيف» سباقة عربياً في ميدان كتابة أدب الحرب العالمية، وهي تكاد تكون الرواية العربية شبه اليتيمة التي تشكل الحرب فضاءها ومحور أحداثها ومرجع أبطالها وشخصياتها. تحضر الحرب هنا بتفاصيلها الصغيرة والكبيرة، اللبنانية والعربية، عطفاً على خلفيتها الدولية بصفتها حرباً عالمية. إنها رواية الحقبة العثمانية الأخيرة بامتياز، تبدأ لحظة اندحار جيوش الدولة العثمانية التي سيطرت على العالم العربي أكثر من أربعة قرون، ثم لا تلبث أن تسترجع وقائع الحرب ومآسيها وحكاياتها الأليمة ومنها ما عرف بـ «سفر برلك» أو التجنيد التركي الإلزامي الشبابَ العرب وإرسالهم إلى الجبهات، والمجاعة والأوبئة والهجرة أو النزوح... أعادت الترجمة الفرنسية رواية «الرغيف» إلى الواجهة بعد مرور خمسة وستين عاماً على كتابتها وأدرجتها في سياق الحركة الروائية العالمية التي تناولت هذه الحرب، وهي ضمت أعمالاً مهمة لأسماء كبيرة من أمثال إرنست يونغر وستيفان زفيغ وريمون راديغه... وقد يجد القارئ الفرنسي فيها مقاربة مختلفة للحرب الأولى ووجهة نظر أخرى غير مألوفة. فالرواية تنطلق من لبنان، بل من جبل لبنان تحديداً، ولا تلبث أن تشمل الثورة العربية الكبرى التي أعلنها الشريف حسين ضد الظلم العثماني، وقد التحق بعض أبطال الرواية بهذه الحرب في الصحراء والعقبة والطفيلة والمزريب واستشهدوا هناك، ومنهم البطل سامي عاصم، الشاعر الثائر الذي يؤدي دوراً رئيسياً في الرواية. وقد وُفّق عواد في تسمية روايته بـ «الرغيف»، فهي رواية المجاعة والذل الناجم عن الجوع، ورواية الانتفاضة ضد المحتكرين الذين وضعوا أيديهم على القمح والطحين طمعاً بالربح والثروة، بينما عامة الناس تتضورون جوعا ويتشردون بحثاً عن لقمة ويموتون على الطرق وفي الحقول، وقد انتفخت بطونهم. وبلغت المهانة ببعضهم حدّ أنهم راحوا يبحثون عن بقايا الشعير في روث البقر وكأنهم أصبحوا أقرب إلى الحيوانات. لن يستغرب القارئ الفرنسي وجود مطعم وردة كسار في الرواية، وهو حانة ومقهى في آن واحد، جعله عواد منطلقاً لحبك العلاقات بين الشخصيات المتعددة، الموزعة بين الانتماء الوطني المقاوم للاحتلال العثماني، وبين التعامل مع العدو المحتل، علاوة على الضباط والجنود الأتراك الذين كانوا يؤمّون الحانة للمنادمة والشرب والأكل والوقوع على امرأة أو فتاة تشبع غرائزهم. في هذه الحانة تُحاك الوقائع ويُخطط لها، ومن حولها تجري الأحداث. أما وردة كسار فكانت تميل إلى الجنود الأتراك وتعمل معهم ولو من بعيد، وكانت معجبة براسم بك، الضابط التركي، وتسعى دوماً إلى إرضائه وإشباع نزواته ولكن ليس بجسدها هي، بل عبر الأخريات ومنهنّ ابنة زوجها، الشابة الجميلة زينة التي تكرهها وتضطهدها انتقاماً لماضيها. لكن زينة كانت تعرف كيف تتحاشى الوقوع في أسر الضابط، فهي تحب الشاعر الثائر سامي وتُخلص له وتجلب له الطعام في مخبئه الذي لجأ إليه هرباً من العسكر التركي وعملائه اللبنانيين. وعندما يقع في الأسر ويُقاد إلى سجن «الديوان العرفي» في مدينة عاليه تزوره في السجن، قبل أن يفر منه مع أحد الحراس اللبنانيين، ليلتحقا بصفوف الثوار العرب. لكن زينة تنخرط أيضاً في الثورة وتعمد إلى قتل الضابط التركي في بيته بعدما أغرته وأسكرته، من دون وازع أو تردد. تبدو رواية «الرغيف» حافلة بالأحداث والوقائع، وهي تسلك خطاً تصاعدياً تتواتر عبره قصص الحرب والثورة والجوع والقتل، وكذلك أخبار المواجهات والمعارك التي يمعن الكاتب في وصف بعضها، بخاصة المعركتين اللتين يستشهد فيهما الثائر سامي ورفيقه. ولا يغيب الوصف عن الرواية بتاتاً ولو على حساب البناء والعلاقات والتقطيع السردي، فالكاتب يصف ببراعة مشاهد الجوع والثورة على الإقطاع والمعارك وسواها. ويعتمد عواد لغة تميل إلى البلاغة الكلاسيكية سواء عبر حبك الجمل المتينة، أم عبر صوغ التراكيب الكلاسيكية أو اختيار المفردات شبه المعجمية والاشتقاقات الفريدة. ولعل هذه النزعة «الفصاحية» تؤكد انتماء صنيعه الروائي إلى الأدب، على رغم اعتنائه بما يُسمى تقنية وبناء. يجد القارئ الفرنسي في «الرغيف» إذاً، صورة أخرى للحرب الأولى، فهي رواية الحرب ضد الاحتلال التركي الذي يتمكن المناضلون من دحره بعد هزيمة ألمانيا، والطابع المأسوي يكاد يهيمن على جوّها وعلى مصائر شخصياتها، وهذه ميزة تخدم الرواية وتسبغ عليها المزيد من الواقعية الدرامية. سامي عاصم ورفاقه يستشهدون، وردة كسار تجنّ بعد قتل زينة الضابط التركي راسم بك، وتُسجن ثم تتشرد مع ابنها الوحيد جائعة، إلى أن تسقط ميتة وهي تعض فخذ رجل ميت، العائلة تتشرد... أما زينة فتقف مذهولة وحزينة وسط جموع من الناس يحتفلون بالنصر ويهتفون، كأن كابوساً رهيباً غادر حياتهم. ولم يهمل عواد رمز ولادة القومية العربية، وشاءها أن تُعلن على لسان البطل سامي قبل استشهاده، فهو لمس أن القومية العربية كانت تولد في تلك اللحظة المجيدة، في قلب ساحات الوغى والشرف، وراح يقول لرفيقه شفيق في ما يشبه الخطبة الوطنية: «اليوم ولدت القومية العربية الصحيحة. إنّ أمها هي هذه الثورة التي أمشي فيها أنا المسيحي العربي إلى جنبكم أنتم المسلمين العرب، لنحارب عدواً مشتركاً لبلادنا هو التركي». لم يعتد القارئ الفرنسي سماع مثل هذا الكلام الحماسي ولم يطلع على أجواء الحرب الأولى في صيغتها العربية، وقد تكون هذه الرواية قادرة فعلاً على ملء الفراغ الذي تعرفه حركة رواية هذه الحرب. بعد ترجمتها البديعة لرواية «طواحين بيروت» للكاتب نفسه وهي تدور في سبعينات بيروت وأجوائها المضطربة التي مهدت للحرب الأهلية لاحقاً، تترجم فيفي أبو ديب رواية «الرغيف» جاعلة من الترجمة فناً إبداعياً، قائماً على معاودة الكتابة. وقد غامرت حقاً في ترجمة هذه الرواية غير السهلة والمكتوبة بقوة ومتانة. ولعلها استخدمت معرفتها العميقة بأسرار الفرنسية، واتكأت على ذائقتها ورهافتها الأسلوبية. عند صدور رواية «الرغيف» عام 1949، تم الترحاب بها وحظيت بمديح تستحقه ووصفها المستشرق الفرنسي جاك بيرك بأنها «رواية رائدة». الآن سيكتشف القراء الفرنسيون أن هذه الرواية لا تزال رائدة حقاً.