حين بدأت حركة الكشف عن كنوز التراث الإسلامي في القرن التاسع عشر، كان معظمها في عداد التراث المفقود والضائع. وكان الرأي العلمي السائد في مجال الدراسات الإسلامية حينها، أنّه لا يمكن تكوين تصوّرات وأحكام عامّة لتراث حضارة الإسلام إلا حين يتم الكشف عن غالبية مخطوطات هذا التراث على الأقل. وفي الحقيقة، فإن الكشف عن كثير من الأعمال المهمة والمحورية التي كانت في عداد المفقودات، ساهم فعلاً في تعديل وإعادة تقويم تصورات كاملة في موضوعات سادها الغموض والجدل والاختلاف قبل اكتشاف المخطوطات ذات العلاقة بها. يحضرني هنا مثال علم الكلام الإسلامي الذي ساهمت في تكوينه فرق إسلامية متعددة منذ نشأته. ولكن، وعلى رغم دور المعتزلة المحوري في بناء علم الكلام، إلا أن أعمالهم كانت في عداد المفقودات، حتى اكتشفت مخطوطات موسوعة المغني للقاضي عبدالجبار المعتزلي (ت415هـ/ 1025م) في اليمن عام 1945، ثم كُشف بـعـدها عن مخـطـوطة شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار كذلك. وساهم هذا الكشف عن أمّهات أعمال الكلام الاعتزالي، في تعديل التصورات السائدة في حقل الدراســات الإسلاميـة عن علم الكلام المعتزلي. وكانت آراؤهـم تـؤخـذ قبـل هـذا الكشف من أعمال خصومهم الأشاعرة. ومع استمرار جهود التحقيق الكبيرة في الأكاديميات العربية والغربية والفارسية في القرن العشرين، فإن الكثير من هذا التراث أصبح بين أيدينا بالفعل، وأصبح بالإمكان دراسته والحكم عليه. ولكن يظل بعض الدارسين في حقل الدراسات الإسلامية، في انتظار الكشف عن هذا التراث بكامله مدفوعين بالدافع الأول نفسه، أي تعليق تكوين أحكام وتصورات أقرب إلى الصحة عن هذا التراث حتى يُكشف عنه كاملاً. ولكن، هل الكشف عن هذا التراث بكامله من دون أن تفوت منه فائتة، مهمٌ حقاً لتحقيق هذا الهدف؟ إنّ المتصفّح لكتب الفهارس والتراجم، مثل الفهرست للنديم (ت 380 هـ/ 990م)، وطبقات الأمم لصاعد الأندلسي (ت 462هـ/ 1070 م)، وتاريخ الحكماء للقفطي (ت 646هـ/ 1248م)، وصوان الحكمة للسجستاني (ت377هـ/987م)، وطبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة (ت668هـ/ 1270م) على سبيل المثال لا الحصر؛ يدرك أن كثيراً من الأعمال المثبتة عناوينها لم تصل إلينا. بل هي في عداد الضائع أو المفقود حتى الآن. ويعزو الدارسون في حقل الدراسات الإسلامية أسباب فقدان كثير من أعمال التراث الإسلامي، الى أسباب حربية مثل اقتحام المغول لبغداد وإتلافهم الكثير من الكتب. وهذه الرواية – وإن صحّت - لا تبدو ذات تفسيرية عالية لأسباب فقدان كثير من التراث أو كاشفة عن أهمية ما فُقد مثلاً. وهنا، أقدّم تفسيراً آخر قد يصلح لشرح أسباب هذا الفقد والضياع، وقد يلقي الضوء كذلك على مدى أهمية المفقود والضائع. يمكن فهم أسباب ضياع كثير من التراث، من خلال العلاقة بين النصوص المفقودة وبين ما تلاها من نصوص تبنى عليها، والتي يمكن وصفها بعلاقة الاستيعاب واستنفاد الأغراض. والمقصود، هو استيعاب مادة العمل المفقود في عمل آخر يتلوه في الزمن، نتيجة الاهتمام بدراسته في الأزمنة التي تلت تأليفه مباشرة. وبالتالي، لا يعود للعمل الأصلي المفقود أهمية كبيرة. وبعبارة أخرى، يستنفد الأغراض التي كُتب من أجلها. وبالتالي، يقل الاهتمام به ويقل الطلب عليه، وبالتالي يقل الاحتياج الى نسخه وتداوله. مثال ذلك، يذكر النديم أعمالاً عدة منسوبة إلى ابن المقفع (ت 143 هـ) تعرّضت للضياع في وقت مبكر من تاريخ الإسلام. غالبية هذه الأعمال الضائعة هي الأعمال التي ترجمها ابن المقفع من تراث الفرس، أمثال «خداينامه» في سير ملوك الفرس، «آئين نامه» و «نامه تنسر» في آدابهم وقوانينهم، تُرى، لماذا فقدت هذه الأعمال تحديداً في حين وصلتنا أعمال أخرى لابن المقفع مثل «الأدب الكبير»، وكتابه ذائع الشهرة «كليلة ودمنة»؟ إنّ السبب من وجهة نظرنا، هو استيعاب الأعمال المفقودة في أعمال تالية. فعلى سبيل المثال، ظل «خداينامه» مصدراً أساسياً لجميع سير الملوك التي ألفت بالعربية في العصر الإسلامي. فقد وردت منه فصول وقطع في «عيون الأخبار» لابن قتيبة (276 هـ/889 م)، وكتاب «تاريخ الملوك والأمم» للطبري (310 هـ/ 923م)، كما كان مصدراً أساسياً لكتاب «تاريخ سنيّ ملوك الأرض والأنبياء» لحمزة الأصفهاني (360 هـ/970م)، وكتاب «غرر أخبار ملوك الفرس وسيرهم» للثعالبي (429هـ/1038م). وهنا، نستطيع القول إن مادة عمل «خداينامه» استوعبت تماماً في هذه الأعمال اللاحقة، بحيث لم تعد هناك حاجة الى تداولها في القرون التي تلت الثعالبي. وبهذا، يكون «خداينامه» استنفد أغراضه. وفي هذا الحالة، سيكون مفهوماً لماذا اندثر «خداينامه» ولم يعد سوى عنوان عمل من أعمال ابن المقفع يدرج في قائمة أعماله في كتب التراجم والفهارس. ومثال آخر، هو شروح الفارابي على الأعمال المنطقية لأرسطو. فقد ضاعت هذه الشروح ولم يبق منها سوى شرح العبارة وشرح القياس. ولكن، إذا حاولنا تتبّع سبب فقدان هذه الأعمال، فسنجد أن ابن رشد هضم شروح الفارابي هذه، ثم شرح أرسطو بأفضل مما شرح الفارابي. هل جبّت شروح ابن رشد شروح الفارابي إذاً؟ نعم يمكننا ادعاء هذا. وفي هذه الحالة، ستكون شروح ابن رشد هي ما أفقد شروح الفارابي أهميتها النصّية. وعلى الجانب الآخر، نجد أن هناك نوعاً آخر من العلاقات بين النصوص تفسر لمَ حُفظت بعض النصوص ووجدت طريقها الى الانتشار والذيوع أكثر من غيرها، منها علاقة المحاكاة. فعلى سبيل المثال، إن الأعمال المحاكية لـ «كليلة ودمنة» حفظت لهذا العمل وجوده وتأثيره. فقد نُظِّم شعراً على يد أبان اللاحقي وبشر بن المعتمر وأسعد بن المهذب المماتي، وابن الهبّارية في عمله «الصادح والباغم»، والمعري في رسالة «الصاهل والشاحج» و «الأسد والغواص» ذي المؤلف المجهول. وكذلك، فإن كثرة الشروح على عمل ما يحفظ العمل نفسه، فنجد أن غالبية الأعمال التي كثرت عليها الشروح والتعليقات والحواشي، قد حفظت. ومن الغني عن الذكر أن كثرة الشروح تدل على أهمية العمل والاحتياج إليه. ومن أمثلة الأعمال التي كثرت عليها الشروح، كتاب «الكتاب» لسيبويه والذي شرحه الكثيرون، منهم أبو علي الفارسي (377هـ/987م)، والرماني (384هـ/994م)، وابن السيرافي (385هـ/995م). والخلاصة، أنّ حفظ بعض التراث وضياع بعضه قد يكونا عائدين الى علاقة بعض أعمال التراث بعضها ببعض، وليس لمجرد الفقد الفيزيائي بسبب الحروب. ولذا، فربما نستطيع الحكم على الضائع بأنه كان في عداد المهمل في أزمنة التراث نفسه بعد أن استوعب في أعمال لاحقة واستنفد أغراضه.