×
محافظة المنطقة الشرقية

تنظيم فعاليات اسبوع المرور الـ 31 تحت شعار ( قرارك يحدد .. مصيرك )

صورة الخبر

نحن أمام دولة هي ثورة، وثورة هي دولة؛ إذ لا يزال القائد الأعلى للجمهورية يُسمّى (قائد الثورة)؛ حتى بعد خمسة وثلاثين عاما من نجاح الثورة، وإقامة الدولة، الدولة التي لا تزال تدّعي أنها ثورة دائمة. إنه التناقض الذي تتناسل منه التناقضات؛ بقدر ما يعكس واقع التناقضات. فمنذ تشكل هذا العالم الحديث، منذ البدايات الفارقة لأزمنة الحداثة، منذ الثورة الفرنسية تقريبا، والثورات تقوم ضد رجال الدين، أو ضد الاصطفاف الذي يتحالف مع رجال الدين، أو يتحالف رجال الدين معه. الثورات الدينية تنتمي إلى عالم سحيق لا علاقة له من حيث تصوراته وتطلعاته ووسائله - بهذا العصر. رجال الدين ينتمون إلى الحالة التي يُثار عليها، وليس إلى الحالة التي يُثار بها، إذ يُثار عليهم؛ ولا يُثار بهم. فالطبقة الكهنوتية أيا كانت هويتها وأيا كانت طبيعة تمظهرها هي طبقة تنتمي إلى عالم التطويع والإخضاع، وتثبيت الأوضاع، في مقابل حركات التغيير والتحرير والتطوير التي تنتمي إلى نسق تصوري متمرد على وعي رجال الدين. إذن، الثورة الإيرانية أتت معاكسة لمنطق التاريخ، رغم أنها تتوسل منطق التاريخ. إنها ثورة رجال الدين الغاضبين، كما هي ثورة رجال الدنيا البائسين. لكن، في حين (حقق رجال الدين الحالمون أحلامهم)، بل وما هو أبعد من أحلامهم، حيث أصبحوا هم الطبقة الحاكمة، رجع (رجال الدنيا البوساء ببؤسهم خائبين)، ليس في أيديهم إلا بقايا شعارات باهتة، تنقلهم من وَهْم إلى وَهْم ولات حين خلاص. الثورة الإيرانية من حيث الأصل هي ثورة المستضعفين، هي الثورة الشعبية التي حرّكها الإحساس الحاد بالاضطهاد، بالتهميش، بالاستغلال، بالواقع البائس وبالمستقبل اليائس. لكن ومنذ البداية - كان عصبها المحرّك لها رجال الكهنوت، رجال سيصبحون بعد نجاحها - عصبَ آلة الاضطهاد والتهميش والقمع والجمود. ف "الثورة الإيرانية ذات مرجعية دينية قوامها تقديس النصوص وعبادة الأصول والختم على العقول" (ثورات القوة الناعمة في العالم العربي، علي حرب، 70)؛ مما ينتج عنها كما يؤكد علي حرب في الصفحة نفسها ثنائية: المرشد والقطيع. إنها اليوم (جمهورية)؛ من حيث ارتباطها بالجماهير، كما أنها (إلهية) من حيث أبعادها اللاهوتية المُدعاة، والتي تلغي خيارات الجماهير. هي كذلك في المسمى العام، وفي الممارسات الواقعية أيضا. كل الدساتير حاولت الفصل/ وضع الفواصل بين صلاحيات الله (= الإلزام الديني المنسوب للنص قطعي الدلالة، قطعي الثبوت، الصادر عن معصوم) وبين صلاحيات البشر(= فضاء الخيارات المدنية التي هي ميدان التجارب التي تخطئ وتصيب) حتى لا يحدث التباس بين عالمين (عالم الشهادة وعالم الغيب)، ومن ثم في طبيعة المتابعة والمحاسبة. "أما الدستور الإيراني فيكرس ازدواجية السلطة بين الله عبر المرشد الروحي، وبين الشعب"(عولمة الإسلام، أوليفيه روا، ص41)؛ ليتداخل عالم الغيب مع عالم الشهادة، وعالم العصمة مع عالم الأخطاء، فيكون العمل في أجواء ضبابية، يتقدس فيها المدنس، ويتدنس فيها المقدس، وتغيب فيها حتى معايير الخطأ والصواب والفشل والنجاح. إيران اليوم، هي جمهورية تقدميّة ورجعية في آن؛ لأن الثورة التي أسست لها كانت كذلك، حيث كانت تنظر إلى الوراء من حيث هي تنظر إلى الأمام، أو من حيث هي تدعي أنها تنظر إلى الأمام. الثورة كانت حركة تقدمية (من حيث هي مناهضة للاستبداد بتطلعاتها التحررية!) يقودها، أو يُهيمن على مجمل مساراتها الحاسمة رجال دين رجعيون لم يقطعوا حقيقة - مع رؤى الاستبداد! وبالتالي فهي تتضمن تقدميّة ما، لكنها تقدميّة مهزومة على الدوام لصالح قوى الرجعية المتمثلة في رجال الدين المهيمنين على كل تفاصيل الحياة، وليس فقط على تفاصيل التدبير السياسي. رجل الدين هو رجل اليقين، وهو رجل تفعيل اليقين في الواقع، وبالتالي هو رجل الإلزام باليقين. وطرائق الحرية هي طرائق الشك والرفض، ومن ثم التبديل والتغيير. وهذا ما لا يملكه رجل الدين، وفاقد الشيء لا يعطيه كما يعلم الجميع. ومشكلة الثورة الإيرانية ليس أنها كانت دينية فحسب، بل وأنها كانت دينية إلى درجة طاغية رجالا وإيديولوجيا. يقول أوليفيه روا: "إن الثورة الإيرانية هي الحركة الإسلامية الوحيدة التي لعب فيها رجال الدين دورا حاسما، ولكنها أيضا، الحركة الأكثر جهرا بطابعها الإيديولوجي: إنها حركة ثورية من العالم الثالث يقودها تحالف فريد من نوعه بين انتلجنسيا راديكالية و(إكليروس) سلفي" (تجربة الإسلام السياسي، أوليفيه روا، ص161). فرجل الدين - بيقينه الدوغمائي، وبيقينه بضرورة تفعيل هذا اليقين - لن يسمح بما يعترض هذا اليقين، والقوة الطاغية لن تسمح بالشراكة على أي حال. نعم، كان ثمة تحالف يشي بالتعددية بداية الثورة، وكان لتنوعه دور في استشكال الصياغة الأولى. ولكن هذا (الإكليروس) السلفي الذي أشار إليه أوليفيه روا هو الذي كان يمتلك القوة الطاغية جماهيريا. ولهذ استغل ارتباط الجماهير به، وألغى كل أشكال التنوع، وقمع كل الحلفاء، وحسم الأمر لصالحه في نهاية المطاف؛ من غير أن يعني ذلك أن هذا التنوع المُقصى غائب تماما في سياق التحديات الضمنية المستمرة، التي تصنع حضورها بالحضور المضاد أحيانا، وبالحضور المتماهي وغير المعلن في أحايين أخرى. يُمكننا القول: إن "الجمهورية الإسلامية في إيران هي نظام من التناقضات والمفارقات" (نشوء الإسلام السياسي الرديكالي وانهياره، راي تاكيه ص48)، بل وهي نظام الانشقاقات المكبوتة، والتأزمات المسكوت عنها. وهي تناقضات وانشقاقات وتأزمات أصبحت حقيقة واضحة بعد أكثر من ثلاثة عقود على نجاح الثورة وفشل الدولة. ومما لا شك فيه أن هذه الانشقاقات والتأزمات هي نتيجة التناقضات والمفارقات التي رافقت لحظة التأسيس، ولم تخضع لأية إجرائية تصالحية تؤسس للسياسات التوافقية التي تنبني عليها الدول الحديثة. ما يعني أنها (= التناقضات والمفارقات) وإن باتت تفرض نفسها اليوم على المشهد السياسي الإيراني بوضوح كما تجلى في الحركة/ الثورة الخضراء -، إلا أنها كانت حاضرة منذ البدايات الأولى. لقد أشار محمد حسنين هيكل في بداية ثمانينيات القرن الميلادي المنصرم إلى كثير من التناقضات التي رافقت البدايات الأولى لتأسيس الجمهورية، ولعل أهمها في رأيه: التناقض بين رجال الدين ورجال السياسة، من حيث تصورات ومفاهيم كلا الطرفين، والتناقض بين الذين قاوموا من الخارج وبين الذين تحملوا من الداخل، من له الكلمة النافذة، وتناقض بين فكرة الدين الشاملة وبين فكرة الوطنية المحدودة، والتناقض بين الواقع الجديد في إيران وبين الواقع في المنطقة، والتناقض بين الأحلام والحقائق في العلاقات الدولية والإقليمية وحتى المحلية، والتناقض بين الجماعات الثورية وبين المؤسسات الدائمة في إيران، ثم وجود الدولة في معارك مع (الأكراد) و(الأذربيجانيين) و(البالوش) وهم من مواطنيها (مدافع آية الله، ص12,13). ويمكننا أن نضيف إلى ذلك حقيقة: أن سلوك الإيرانيين غير واضح، بل ومتناقض، وغالبا ما يكون هذا التناقض لإخفاء السياسة الحقيقية، أي كي لا تتوقع تصرفاتها (حلف المصالح المشتركة، تريتا بارزي ص373). وبهذا يصبح التناقض - سلوكا وظواهرَ - على عدة مستويات، تتداخل من حيث هي فاعلة ومنفعلة، حتى داخل السياق الواحد. وهذا يؤكد فيما يؤكد - أن ثمة تناقضات مرئية وأخرى غير مرئية، مقصودة وغير مقصودة، وكلها في النهاية تعكس أزمة رؤية تقود إلى أزمة فعل، وبالتالي إلى أزمة تناقضات غير محدودة، لا بد وأن تؤدي مجتمعة - إلى فشل عميق، قد تتكشف آثاره الكارثية في المستقبل القريب، ولو في صورة صدام صريح مع خيارات الجماهير، هذه الجماهير التي بدأت تضيق بحالة التزمت والعزلة والانغلاق. ثارت إيران على الحُكم المطلق للشاه؛ لتتحرر من الاستبداد الدنيوي، ولكنها أتت بالولي الفقيه الذي زاد على الحكم الدنيوي المطلق؛ بأن أصبح معصوما بصفته مُنفذا لإرادة السماء! "فكانت إيران الجمهورية الإسلامية مزيجا من العودة إلى الجذور والانعزالية، ومزيجا آخر من الحرية والطغيان، ومزيجا ثالثا من التقليد والعصرنة" (مصاحف وسيوف، 19). وسيبقى الأمر على هذه الحال؛ ما دام هناك من يدّعي الجمع بين المستحيلات، وما دام هناك وعي جففته الخرافة حتى أصبح يؤمن بإمكانية الجمع بين هذه المستحيلات المتناقضة، بل وربما يؤمن بأنه يمثل خصوصية حضارية من شأنها أن تُنتج خصوصية ديمقراطية يهيمن الولي الفقيه فيها على كل السلطات. كانت الثورة الإيرانية حركة تحرّر تتغيا الحرية، ولكنها لم تُسبق بثقافة تحرير. لهذا كانت متواليات الأحداث تصنع نفسها بنفسها دونما تخطيط مسبق، فكانت الأفعال وردود الأفعال تصنع الفكرة بكل تناقضاتها؛ لإرضاء الحلفاء ولقطع الطريق عليهم في آن، بما يشبه في بعض الأحيان- الهروب إلى الأمام، بالهروب إلى (الإمام!). كانت الأفكار والتشكيلات المؤسساتية تُصاغ على خط النار. وطبيعي حينئذٍ - أن لا وقت للتفكير أو للاختبار أو للتشارك في اتخاذ القرار. هذه البدايات القلقة كانت هي فضاء التجاذبات (ذات البعد التناقضي) التي كُتب لها أن تسيطر على مشهد الرؤية؛ كما كُتب لها أن تسيطر على مشهد الفعل، اجتماعيا وثقافيا وسياسيا. تحت عنوان فرعي باسم: (الدستورانية الإيرانية) يؤكد الباحث المغربي عبد الرحيم العلام أن إيران عقب الثورة طرحت على بساط البحث قضية الجمع بين الديمقراطية والحكم الإسلامي بوصفها مسألة ذات أولوية كبرى (الديمقراطية في الفكر الإسلامي المعاصر، ص165). ما يعني أن ثمة إحساسا بضرورة الجمع بين الحكم الإسلامي (موروث ذاتي) والديمقراطية (تراث مستورد)، وفي الوقت نفسه، ثمة إحساس بوجود التناقض بينهما، ذلك التناقض المتوقع، والذي هو في أصله - ليس تناقضا بين الإسلام والديمقراطية، وإنما بين تصورات الإسلامويين الخمينيين لطبيعة الحكم، تلك التصورات التي يعتقدون جازمين أنها هي حقيقة الحكم الإسلامي؛ ولا حقيقة سواها، وبين الديمقراطية في تصوراتها النسبوية؛ بوصفها آلية قابلة للتطويع الثقافي إلى حد كبير. أي إن الإشكالية عند الحديث عن الإسلام والديمقراطية تبدأ بتحديد المصطلحات، خاصة تلك المصطلحات المفتوحة على التأويلات اللانهائية. وهذه مسألة حاسمة، كما أنها مسألة تتكرر، وقد أشار إليها هاشم صالح في حديثه عن الحركات الإسلامية التي بدأت ترفع شعارات الديمقراطية بعد الانتفاضات العربية الأخيرة، فقال: الإسلام والديمقراطية، أي إسلام وأي ديمقراطية؟ (الانتفاضات العربية، ص 160). ولا شك أنه تساؤل ينطبق تماما على الحالة الإيرانية التي رفعت شعار الإسلام وشعار الديمقراطية بتفسير خاص بالإسلام، وتفسير خاص بالديمقراطية؛ لتقع أو تُوقع كثيرا من المخدوعين! - في أعلى درجة الحيرة والالتباس. الحيرة هي نتاج التناقضات، كما هي نتاج الغموض، وإرادة الجمع بين المستحيلات. لهذا، لم تكن الحيرةُ حيرةَ جماهير، إلا بعد أن كانت حيرةَ رموز وقيادات. من هنا رأينا كيف أن الخميني، ومنذ البداية، كان يقبل الديمقراطية حينا، ويرفضها في أحايين أخرى. يقبلها إذ تكون بفهمه الذي يراه هو الإسلام، ويرفضها إذ تكون بفهم فلاسفة السياسة في العالم الحديث الذي شهد نجاح التجربة الديمقراطية على أو سع نطاق. يقول الخميني: " الديمقراطية الصحيحة هي الديمقراطية الإسلامية". لكنه في موطن آخر يقول عن المطالبين بالديمقراطية: "لا يعرفون ما هو الإسلام، وهم يخالفون نهضة الإسلام؛ وإذا كانوا معارضين لهذا النظام فهم معارضون للإسلام" (الديمقراطية في الفكر الإسلامي المعاصر، عبدالرحيم العلام، ص179،177). وطبيعي أن من يتصور معارضيه معارضين للإسلام ذاته لمجرد أنهم يعترضون على أسلوبه في الحكم، فهو لن يقبل بديمقراطية تضعه بأقواله وأفعاله موضع المساءلة والمحاسبة. فالديمقراطية الصحيحة - في نظره - هي التي يتصورها حكما إسلاميا، أي التي تجتمع كل خيوط اللعبة السياسية فيها بيد الولي الفقيه الذي يستمد عصمته من عصمة الإمام الذي ينوب عنه بإرادة الله، تلك الإرادة الغيبية التي لا يعلمها الناس ولا يستطيعون أن يعلموها فيما لو أرادوا، وإنما يكشف عنها إجماع/ أغلبية الفقهاء المجتهدين! لم تنتصر إيديولوجيا رجال الدين في السنوات الأولى للثورة الإيرانية فسحب، بل انتصرت إيديولوجيا أشد رجال الدين ميلا للسلطوية، وبلغت أوج انتصارها بإقرارها ل "ولاية الفقيه التي لا علاقة لها بالديمقراطية" (التنوير والثورة، محمد الحداد، ص28) كأساس للنظام الجمهوري المتأسلم. وفي المقابل، تراجعت كل الآراء الأكثر تسامحا والأكثر تحررا حتى من داخل التيار الديني، كآية الله شريعتمداري الذي بقي رهن الإقامة الجبرية حتى وفاته، مع أنه من كبار مراجع التقليد؛ لمجرد الاعتراض على إطلاقية ولاية الفقيه، ومنحها صلاحيات تتجاوز الصلاحيات الإمبراطورية الذي ثار عليه الإيرانيون. كثيرون توجّسوا بمن فيهم بعض رجال الدين المتحالفين مع الخميني من الطابع الاستبدادي الذي تتأسس عليه الديمقراطية الدينية الوليدة التي أتت عقب ثورة يُفترض أنها ثورة حرية. "وقد انتقد طالقاني مشروع الدستور المقدم في يونيه عام1979 على أساس أنه أقل من دستور عام 1905 من ناحية نصوصه حول الحريات والديمقراطية". ولهذا رفض رجال الدين أن يرأس طالقاني المجلس المخول بإعداد الدستور (إيران، دراسة عن الثورة والدولة، وليد عبدالناصر، ص37). وهذا يعني أن الثورة كانت ترجع على مستوى الحريات والديمقراطية - إلى ما هو أسوأ من الاستبداد البهلوي، وأن تطلعات الناس التحررية التي قادها رجال الدين في القديم والحديث قد تواضعت كثيرا عما كانت عليه قبل 74 عاما! نقلا عن الرياض