يعزز الشاعر محمد علي شمس الدين ذخيرته الشعرية الثرّة بديوان متميز أسماه "النازلون على الريح" بعد ملحمة شعرية متنوعة الموضوعات والصيغ الأسلوبية أسس لها بمجموعة "قصائد مهربة إلى حبيبتي آسيا"، وكان آخرها ديوان "نجوم في المجرة"، فضلا عن الأعمال ذات البعد المفتوح التي تتأبّى على التجنيس ويصعب تصنيفها في خانة الشعر، وإن كانت من حيث اللغة والأبعاد الأسلوبية تتغذى من خيال شعري جامح تشكل لدى الشاعر مع مرور الزّمن، ومماحكات التّجربة، والخوض في تقريض المعنى. يتشكّل الديوان الشعري "النّازلون في الريح" من أربعة أبواب: آلات الفج، وجهات إضافية، ومجاز، وبيارق على الريح. وتتفرع عن كل باب قصائد تستقل بذاتها عن القصائد الأخرى بموضوعها وطريقة صياغتها الفنية، وإن كان يجمع بينها خيط رفيع يلم شتات تفريعاتها في دائرة واحدة وفلك موحد هو نقد واقع الحال الذي تعيشه الأمة العربية من تمزق وتشظ وصراعات تنعكس، بشكل مؤلم، على الوضع النفسي للشاعر الذي يظل، طيلة تفاصيل البوح الشعري، يترنح مثل كائن نوراني بحثا عن حقيقة يركن إليها، أو هوية تحميه اللظى. ولم يجد الشاعر بدا من ركوب الكائن الشعري الذي بات يحلق به في ملكوت المجازات معمقا من حيرته الصوفية التي بقدر ما تفتح له أفق السباحة بعيدا عن الوحل، فهي تزيده بعادا عن ذاته وعن العالم الذي يريد من نفسه أن تكون فاعلة فيه ومنفعلة معه. هوية مفتقدة ينازع الشاعر محمد علي شمس الدين، طيلة الفصول الشعرية، مسألة الهويّة الفردية التي على ما يبدو من خلال تأمّل المُنجز الشعري تعاني غربة قاسية تقضّ مضجع الشاعر، وتجعله يلفظ أنينه وألمه الداخليين شعريا مفارقا تعلو فيه نغمة القسوة ويهبط فيه إيقاع الفرح.. حتى إن المتلقي لا يدري هل هذه الهوية ذاتية صرفة أم هي هوية جمعية متلبسة في إزار بلاغي يشخصها في كينونة جُوّانية.. لكن التغني بلغة الفقد، من خلال هذا الاغتراب داخل الذات وخارجها، يوحي بوجع مضاعف يعيشه المتلقي بمرارته الرتيبة مع الشاعر، وهو يسافر عبر دروب المتاهة نفسها التي أنتجت خطاب القصيدة. " التغني بلغة الفقد، من خلال هذا الاغتراب داخل الذات وخارجها، يوحي بوجع مضاعف يعيشه المتلقي بمرارته الرتيبة مع الشاعر وهو يسافر عبر دروب المتاهة نفسها التي أنتجت خطاب القصيدة " يقول الشاعر معبرا عن هذا التمزق الداخلي العنيف الذي يصيّر الذات بلا هدف أو جدوى: "ماذا بيدي/ ماذا أفعل/ هل يومي بيدي/ وغدي.../ يومياتي نافلة وقديمهْ/ لكن من خوّلني أن أفصل بين اللحظات المعدومة واللامعدومة؟/ ما دامت أيامي هلكى/ سفني غرقى في البحر وساريتي في القاع/ ماذا سيكون إذن بيدي؟/ سيان أكنت النائم أم كنت الصاحي/ خذلتني الرؤيا/ وصباحي أفلت من كف الليل/ فلأخرج من بين سيوف النوم قليلا وأحدقَ في هذا الويل". الويل الذي يضطر الشاعر لرؤيته في يقظته وفي منامه، جعله يعيشُ خارج الزمن؛ سبعين سنة مرت كأنها لا شيء، فالزمن لا يقاس بسعته الفيزيائية، بل يقاس بحجم لحظات السعادة التي تحققت فيه للفرد الذي يعيش هذا الزمن، وبحجم الذكريات الماتعة التي قضاها في هذا العمر. وأما في حالة الشاعر، فهو لم ير من هذا الدهر غير تصاريف الألم والقسوة والتمزق وذكريات الخوف والرعب. هي متاهة دائرية تحتنق فيها سيرورة الحياة.. يقول علي شمس الدين معبرا عن وطأة الزمن: "صدري مفتوح/ ويداي مشردتان بلا مأوى/ لا شيء سوى النجوى/ شردني هذا الدوران/ وقلبي كالدولاب يدور معي ويعانق من أهوى../ لا شط ولا مرسى/ كم عصفت ريح/ وتوالى رعد البرق وأغدق من مطر حولي/ وأنا أمشي/ ألف، ألفان من السنوات/ تمر كمر سحاب فوق الغمر...". ولا يخفي الشاعر السّر في وصول نفسيته إلى هذا الحد من التشنج، إذ يلمح للمأساة التي تؤول إليها القضية الفلسطينية، ويصور مشاهد الحروب التي تمزق الشعوب العربية، وحالات الصراع الدامي التي تغلي بها المدن والمقامات.. يقول الشاعر: "لقد قتلوا/ سيدي، ها هنا/ بلا سبب/ سوى أنهم حالمون/ لقد ذبحوا مثلما يذبح بالريش فرخ اليمام/ تعالوا انظروا قبرهم يملأ الرّحب أعلى من المجد/ أعلى من الخيل واللّيل والساريات العظام". وبعد التصوير المأساوي لحالة الذات والجماعة وما يعيشانه من تمزّق واغتراب وضياع في عاصفة دوّارة لا تهدأ ولا تلين، وبعد أن يكشف أسرار هذا العنت، ينتقل الشاعر إلى استحضار حياة الأنبياء والشعراء والصوفية الذين كابدوا العناء نفسه، وكأنه يستعين بنورهم الوهّاج، ويستند إليهم كمرجعيات لدعم الهشاشة التي تعانيها نفسيته جراء التأثير المباشر للأحداث والوقائع التي تنغمس فيها الأمّة العربية. ويذكر الشاعر مرجعيات دينية وشعرية معروفة ليؤثث بها متخيله الشّعري الدفّاق، مغنيا إياه بالخصوبة اللازمة لانسجام موضوعي متنامٍ، يليق بالمعراج الصوفي الذي تتأسّس عليه شطحة الذات في الفصل الأخير الذي عنونه بـ"بيارق على الرّيح"، ومن بين هاته المراجع: مريم، ومحمّد، والبراق، وابن منظور، والمتنبي، وصقر الله، والحلاج، وأبو نواس، وأمل دنقل، والحلّاج... أسلوبيّة منفتحة " الكتابة بالنسبة للشاعر تصبح سلوكا صوفيا ينقله، على مستوى الحياة المعيشة، من الكتابة كفعل إلى التجربة كسلوك، وهنا يتجسّد العبور الصوفي " نوّع الشاعر من أساليب الصيّاغة الفنية تبعا للموضوعات المطروقة، ووفقا للتحولات السيكولوجية والشعورية التي تغمر الذات الشاعرة وهي تتفاعل مع اللحظة الشعرية، حيث تصبح الكتابة بالنسبة للشاعر سلوكا صوفيا ينقله، على مستوى الحياة المعيشة، من الكتابة كفعل إلى التجربة كسلوك، وهنا يتجسّد العبور الصوفي من المحنة والمراس إلى فعل العروج من مرقى إلى مرقى. وبناء على ذلك، نجد في القصيدة اختيارات إيقاعية عمودية، وأخرى حرّة طليقة تقتفي أثر النّفس في انفعالاتها المتوتّرة، وقلقها المضاعف، ونفسها النقدي المتلاحق. كما أن الاستعارات والمجازات والاستدعاءات والتّناصات والإحالات تأتي على مقاس الهوس السّردي الذي تهجس به المجموعة الشعرية، فهي بقدر ما تشعر وتنفعل، تهفو أيضا إلى الحكي الذي أدّى وظيفة تبرير وتشخيص أسباب ما تعتلّ به الذات وهي تمارس طقسها الشعري.