لم يسلم المجتمع الثقافي السعودي منذ فترة طويلة من التحولات العديدة التي تتقدم به أحيانا وتتراجع أحيانا أخرى، ما يميزه عن غيره بخضوعه إلى الصراعات الطويلة مع الخطابات الأخرى غير الثقافية التي لها حراكها الخاص، ولعل صراع الحداثيين مع تيار الصحوة في فترة الثمانينات الميلادية كان من أعنف تلك الصراعات التي خاضها عدد من أفراد المجتمع الثقافي، وذهب بعضهم ضحية ذلك "العنف الرمزي" - إذا صح التعبير- تجاه خطابهم الثقافي، حتى صبغت تلك المرحلة كافة المراحل التالية له ومنها تغوّل الخطاب الديني في السعودية حتى هذه السنوات الأخيرة ليصبغ المجتمع السعودي، بما فيه الثقافي، بصبغته الخاصة. أقول: "المجتمع الثقافي" لأن له سماته وآلياته وطرقه وتحولاته الخاصة عن المجتمع الديني أو المجتمع السياسي أو المجتمع الاقتصادي حتى المجتمع العادي أو غيره، وسماته الخاصة كما هي سمات وآليات وطرق وتحولات غيره عنه، لتجعل له تكوّنا اجتماعيا يميزه عن غيره، بحيث يستحق معها أن يكون مجتمعا خاصا له استقلاليته على المستوى الذهني والعملي، وإن كان يشترك مع كافة المجتمعات الأخرى إلا أنه يبقى له فلكه الخاص الذي يدور في إطاره، وتماسه مع غيره، إنما هو تماس التداخل الذي هو سمة المجتمعات كلها، دون الاندماج الكلي، كنوع من تقاطع المجموعات التصنيفية في علم الرياضيات، ما يعني أن أفراد المجتمع الثقافي يتداخل مع أفراد المجتمع الديني، وكذلك مع أفراد المجتمع الاقتصادي وأفراد المجتمع السياسي مع استقلالية كل مجتمع بسماته الخاصة، فهي أشبه بدوائر متقاطعة في جزء صغير منها، ومستقلة في جزئها الأكبر. هذا الفرز بين أفراد المجتمع الثقافي والديني والسياسي والاقتصادي نجد له تأصيلا عند عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو في مفهومه للحقل، حيث رفض النزاع الماركسي بين الطبقات واستبدله بنزاع الحقول الاجتماعية، فكل حقل اجتماعي له استقلاليته النسبية عن الحقل الآخر، بمعنى استقلالية الحقل السياسي عن الديني عن الاقتصادي وهكذا فكل حقل من هذه الحقول ليس فضاء نظريا، وإنما له واقعه الحقيقي من خلال مؤسساته التي تعتني كثيرا باشتغالاتها الخاصة به، وهذا ما يعطي استقلالية الحقل أهمية كبيرة من منظور بورديو وهو بالضرورة سيخوض صراعا من مع الحقوق الأخرى لكي يضمن استقلاليته الذاتية. وإذا ما أردنا إقحام وزارة الثقافة في هذا الموضوع فإن مفهوم الحقل الثقافي أو المجتمع الثقافي يبرز كثيرا هنا بوصف الوزارة الممثلة عن هذا الحقل تمثيلا رسميا، إذ بعد إنشاء وزارة تنفيذية تختص بالثقافة فإن من المهم في الدولة الحديثة أن تضع هذه المؤسسة في بالها مفهوم حقلها الخاص الذي تشتغل عليه، حتى وإن تقاطع معها غيرها في بعض جوانبها الخاصة بها كالحقل التعليمي والأكاديمي مثلا إلا أنه تبقى هي الممثل الأهم في تشكيل حقلها الخاص، وبالرغم من عمر الوزارة القصير بالنسبة للوزارات الأخرى التي تنافسها في مجالها، إلا أن الوزارة كان لها من المكتسبات الشيء الكثير الذي يحمد لها، فالفضاء الثقافي أصبح أفضل من ذي قبل، إلا أن مفهوم استقلالية الحقل الثقافي يبقى غائبا عن ممثلي هذه الوزارة الأمر الذي يعيق كثيرا من تطورها وسيرورتها التاريخية في المجتمع السعودي. نحن نعلم منذ قرابة الثلاثين عاما كيف أن الخطاب الديني في السعودية يهيمن على كثير من المؤسسات والوزارات ولذلك فهو تعدى حقله الخاص إلى الحقول الأخرى وهذا شيء طبيعي في ظل غياب مفهوم العمل المؤسساتي في المجتمعات التقليدية أو التي تميل خطاباته العامة للشمولية، حيث يهيمن خطاب على بقية الخطابات الأخرى بغض النظر عن ماهية هذا الخطاب. ليس من الضرورة أن المؤسسة الدينية الرسمية في السعودية تفرض هذه الهيمنة، فلها حقلها الخاص الذي تنتمي إليه، وعادة لا تتعداه إلا في أضيق الحدود، وإنما المقصود أن الجو العام هو جو ديني يغلب الجانب الديني ويضعه مهيمنا على بقية الجوانب الأخرى حتى لو لم تكن لها علاقة في المسألة الدينية من قريب أو من بعيد، وهذا الجو خلق تيارا عاما يصطدم أحيانا حتى مع المؤسسة الدينية الرسمية، مع أنها تنتمي إلى ذات الحقل الذي ينتمي إليه التيار الديني الذي يصطدم معه، وهذا ما يعبر عنه بورديو بالصراع الداخلي في الحقل نفسه بين المكرسين والمنتمين الجدد، فضلا عن الصراع الخارجي مع الحقول الأخرى، وهذا الصراع في الحقل الديني يخرج ليكون له صداه في الصراع مع الحقول الأخرى، بوصفها حقولا مستقلة عن الحقل الديني من خلال مؤسساتها ووزارتها الخاصة إلا أن هيمنة التيار الديني ضيق مساحة هذه الاستقلالية كثيرا. وعلى هذا الأساس، وبحكم عمر الوزارة القصير بالنسبة لغيرها من الوزارات، فقد أصبح العبء عليها كبيرا في خلق مساحتها الخاصة أو استقلاليتها الواسعة. نجد هذه الهيمنة تبرز في تجل من تجليات الصراع بين الحقول في معرض الكتاب في الرياض، حيث هو مناسبة ثقافية تختص في جانب الحقل الثقافي الذي تمثله الوزارة ومع ذلك تدخل التيارات الدينية في صراع مع الوزارة في محاولة تقليص مساحة الاستقلالية فيها من خلال فرض تصورات دينية على الحراك الثقافي. الإشكالية أن وزارة الثقافة تخضع أحيانا إلى هيمنة التيار الديني وتقلص من استقلاليتها بذاتها خشية الصراع مع التيار الديني، وهذا ما قلص من تقدم الوزارة في كثير من مكتسباتها وتراجعها حتى في بناء برنامجها الثقافي الخاص في معرض الكتاب أو في البرامج الثقافية الأخرى، أو مثلما حصل من فرض لبس العباءة على المذيعات في القنوات السعودية الرسمية والتجارية، على الرغم من أنه قرار جاء من خارج الوزارة، ما يعني أن الحقل الثقافي الذي تمثله الوزارة لا يحظى بتلك الاستقلالية، كما في وزارات أخرى في الوقت الذي كان من المفترض أن تدافع عن سلطتها التنفيذية وتمارس حقها في استقلال حقلها الثقافي الذي هو ضرورة ثقافية وإدارية في تنفيذ كثير من مشاريعها المرجوة التي تأخرت بسبب هيمنة الحقول الأخرى عليها.