بعد هدوء العاصفة، وبعد أن حصحص الحق في قضية القوائم المالية لشركة موبايلي، التي تناولتها صحيفة الجزيرة بكل مهنية، وقدمت متابعة صحفية موضوعية لذلك الموضوع الذي يمس الشركة والمساهمين فيها وسوق الأسهم بعمومه، بل سمعة البيئة الاستثمارية في المملكة.. هنا أقدم قراءة متأنية لموقف (الجزيرة) من تلك القضية، ومحاولة لفهم المنطلقات التي انطلقت منها لتقف ذلك الموقف الشجاع، ولتمارس الدور الحقيقي للسلطة الرابعة.. وقبل البدء في ذلك لا بد أن لا تغيب عنا أمور، منها: - هناك دور توعوي تضطلع به الصحيفة. - هناك أخلاقيات لمهنة الصحافة. - هناك مورد مالي أساس لأي وسيلة إعلامية، هو الإعلان التجاري. - هناك معلن دائم وقوي، ومغرٍ لأي وسيلة إعلامية. - هناك قضية لا يمكن السكوت عنها في أروقة هذا المعلن. - ليس هناك ما يجبر الصحيفة على الكتابة عن الموضوع سوى المهنية. وهنا وقفت (الجزيرة) بين طريقين: إما تغليب المصلحة العامة والتمسك بأخلاقيات المهنة وتناول الموضوع وكشف أبعاده لإصلاح الخلل، أو تقديم المصلحة الخاصة والمحافظة على رضا المعلن، مثل أي وسيلة أخرى لم تتطرق للقضية أو وقفت موقف المدافع عنها. ولكن الجزيرة اختارت المصلحة العامة انطلاقاً من مسؤوليتها الاجتماعية. ما هي المسؤولية الاجتماعية؟ يظن الكثير أن المسؤولية الاجتماعية هي مسؤولية الشركات تجاه المجتمع في تقديم مبادرات ذات نفع عام، ولها صفة الاستدامة. وهذا وإن كان صحيحاً في مجاله، وتم تداوله لأول مرة في 1998م، إلا أن المسؤولية الاجتماعية في الأساس هي نظرية إعلامية، ظهرت في خمسينيات القرن الميلادي الماضي (1947)؛ لتحدث توازناً بين سطوة نظرية السلطة وانفلات نظرية الحرية.. فبعد أن ضاق الناس، صحفيين وقراء، ذرعاً من ضغط نظرية السلطة وكبتها لحرية التعبير، جاءت نظرية الحرية لتفتح أبواب حرية التعبير، ولكن الكثير من الممارسين للصحافة تطرفوا في ذلك حد الانفلات الإعلامي في النشر القائم على الإثارة الذي نسف كل أخلاقيات المهنة؛ فظهرت تبعاً لذلك نظرية المسؤولية الاجتماعية لتحدث توازناً بين الأولى والثانية، فهي تفترض في الوسيلة الإعلامية أو الصحفي أن يمارس عمله بمهنية، ويستشعر أنه مسؤول أمام المجتمع، وأن يكون الرقيب نابعاً من ذاته تجاه ممارساته الصحفية. وهذا ما قامت به الجزيرة تماماً في قضية موبايلي؛ فقد انبرت وحدها وانفردت للتصدي لهذه المشكلة في الوقت الذي توارى فيه الآخرون خوفاً على مصير العقود الإعلانية. وبعد أن انتصر صوت المهنية وانتبهت القيادات العليا في الشركة للخلل، وبدأت في معالجته، أظهر الآخرون رؤوسهم، وساروا خلف صانع الخبر، وهو (الجزيرة)، في المتابعة والتغطية. تناوُل الجزيرة لهذه القضية يوحي بأمرين: الأول نشاط صحفييها الذين بحثوا ونقّبوا عن القضية، ولملموا خيوطها حتى كشفوها. والثاني مدى شجاعة وقوة ومهنية الجهاز التحريري والإداري في الصحيفة. يقول خالد المالك رئيس تحرير الجزيرة في مقال بعنوان «نعم لقرار مجلس إدارة موبايلي»، نشره على خلفية تلك القضية: «ندرك أن قطع الإعلانات عن الصحيفة أو إغراءها بمزيد من الإعلانات شيء، والمصلحة العامة شيء آخر». هذه الجملة تلخص ما حصل بالضبط؛ فهناك محاولة لشراء السكوت بالمزيد من الإعلانات، وهناك محاولة لفرض السكوت بالتهديد بقطع الإعلانات، وهناك ضمير حي آثر المصلحة العامة وتمسك بالأمانة وأخلاقيات المهنة؛ ليجعل مصلحة القارئ والمساهم والسوق والوطن فوق كل اعتبار. إنني إذ أحيي (الجزيرة) على موقفها المهني، الذي زادها احتراماً ومصداقية لدى القارئ، لأدعو جميع الوسائل الإعلامية إلى أن تحذو حذوها، وتنشط في التنقيب عن القضايا التي تمس مصلحة الوطن والمواطن، وتكشفها، وتقدمها للجهات المعنية لعلاجها، وأن تجعل المصلحة العامة هي دافعها في ذلك، وأن تمارس المسؤولية الاجتماعية الإعلامية كما ينبغي. وأخيراً، فإننا متفائلون بالاستغناء عن بعض القيادات بالشركة، والتعديل الذي مس رئيس مجلس الإدارة وبعض الأعضاء؛ لأن هذا هو الطريق الصحيح للإصلاح، والوصول إلى ما قد يكون مغيباً حتى اليوم من أخطاء جسيمة وممارسات أضرت بالشركة وبالمساهمين فيها، وألقت بظلالها السيئ على سوق الأسهم بعمومه. - عبدالرحمن الجبرين