هذا المقال بقلم محمد القرماني، اقتصادي أول في وزارة التعاون الدولي، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN وعلى الرغم من أن ملكية السيارات الخاصة في مصر أقل كثيرا من غيرها حول دول العالم حيث بلغ عدد السيارات في مصر، وفقاً لإحصائيات البنك الدولي عام 2004 الى 28 سيارة لكل ألف مواطن بالمقارنة بـ 80 في تركيا و83 في تونس و57 في الجزائر و47 في المغرب، إلا أن أزمة المرور في القاهرة تبدو أشد وأعقد من مثيلتها في تلك الدول. ويبدو أن هناك أسباب عديدة لهذا الوضع لعل أهمها هو ثبات معدل الزيادة السكانية في مصر في حدود 2٪ سنوياً منذ أربعين عام تقريبا وتمركز الخدمات الحكومية والترفيهية والتي تجعل القاهرة أكبر المراكز الحضرية في مصر وقبلة رئيسية للهجرة الداخلية بالإضافة الى تردي مستوى وسائل النقل العام والتي يفضل معها المواطن المقتدر شراء سيارة خاصة أو استخدام سيارة أجرة، وكذا فقر البنية التحتية غير المجهزة منذ تأسيسها لتحمل هذا الضغط المروري الكبير. وتحتل أزمة المرور والنقل الداخلي "urban transportation" بصفة عامة أولوية لدي حكومات وصانعي القرار حول العالم، وهناك العديد من الحلول والبدائل التي تلجأ اليها هذه الدول للمساهمة في تحسين وسائل انتقال الأفراد وبالتالي زيادة الإنتاجية والحد من التلوث البيئي. ويعتبر تسعير استخدام الطريق "road pricing" أحد أدوات السياسية الاقتصادية للدولة والتي تقوم عن طريقها بإدارة الطلب على استخدام الطريق "Demand management"، كما أنه أحد الوسائل الفعالة التي تلجأ إليها العديد من الدول لتخفيف حدة الازدحام المروري وأيضاً تحقيق ايرادات للدولة. حيث يتم التعامل مع استخدام الطريق باعتباره سلعة ذات جانبي عرض وطلب، تمثل البنية التحتية من طرق وشوارع وأماكن انتظار سيارات جانب العرض، بينما المركبات بمختلف أنواعها تمثل جانب الطلب. وكطبيعة أي سلعة عندما يزيد المطلوب عن المعروض منها- أي زيادة عدد السيارات عن قدرة ومساحة الشوارع والطرق- يحدث قلة في السلعة المعروضة يترتب عليه أيضاً رداءة المنتج المتداول في السوق وهو في هذا الحالة جودة الطريق والمساحات المتاحة لاستخدامها من المركبات المختلفة. ومن المتفق عليه أن استخدام الطريق يعتبر سلعة عامة، أي أنها متاحة للجميع دون تمييز ومن الصعب منع فئات بعينها من استخدامها إلا أنه في الوقت ذاته فإن استفادة أي شخص بها تقلل من فرص الآخرين في الاستفادة منها لذا ففي ضوء مجانية استخدام الطريق من المتوقع أن تتفاقم أزمة الزحام المروري. لذا تقوم فكرة تسعير الطرق على وضع ثمن لاستخدام الطرق-الكباري- الأنفاق التي تشهد زحاما مرورياً في أوقات الذروة، وذلك لإعطاء قائدي المركبات الخاصة حافزاً سلبياً لتقليل استخدام سياراتهم في أوقات الذروة أو استخدام بدائل أخري مثل استخدام وسائل النقل العام أو الرحلات المشتركة "car pooling". وفي حالة القاهرة الكبرى يمكن البدء تجريبياً على أحد المحاور المرورية التي تشهد زحاماً مرورياً في الأوقات الصباحية مثل الطريق الدائري أو محور 26 يوليو من خلال تحصيل رسوم مرور في أوقات الذروة على أن تكون محطات التحصيل الكترونية "Electronic toll collection"، والتي لا تتطلب توقف السيارة لدفع الرسوم بل يتم الدفع مقدماُ وترصد كاميرات مثبته على تلك المحطات ومزودة بنظم لقراءة بيانات لوحات السيارات "Automated vehicle identification" التي تمر عليها وذلك حتى لا تسبب تكدساً مرورياً. ويمكن استخدام حصيلة المبالغ المحققة في توسعة وصيانة الطرق ذاتها أو تمويل مشروعات النقل العام التي تكبد الدولة مبالغ باهظة تضطر معها للاستدانة من الخارج. كما أن تسعير الطرق قد يصاحبه كإجراء مكمل الشروع في تنفيذ مشروعات نقل جماعي متطور تكون بديلا مناسباً لمالكي السيارات الخاصة والذين يرغبون في ترك سياراتهم واستخدام وسائل آمنة ومريحة. ويمكن الاستفادة من تجارب الدول التي طبقت هذه السياسة بصور وآليات مختلفة مثل الولايات المتحدة واستراليا وكندا ومن الدول النامية جنوب أفريقيا والبرازيل إلا أن سنغافورة تظل صاحبة السبق في تطبيق نظام التحصيل الالكتروني عام 1998 والذي نتج عنه انخفاض عدد السيارات بحوالي 25 ألف سيارة في وقت الذروة فضلاً عن زيادة سرعة السير بحوالى 20 كم في الساعة. كما بدأت دبي في تطبيق هذا النظام تحت مسمى (سالك) عام 2007 والذي ساهم في تخفيض زمن الرحلات بنسبة 44٪ مما دعا حكومة دبي الى تنفيذ مرحلتين جديدتين للمشروع. وبطبيعة الحال فإن البدء في تنفيذ مثل هذه السياسة في مصر يتطلب دراسة اقتصادية هندسية واجتماعية تحدد التكلفة والعوائد المتوقعة، وأيضا تضع خطة تنفيذ مصحوبة بمؤشرات يمكن قياسها لتحديد النجاح من عدمه مع ضرورة الاهتمام بطرح الأمر على الرأي العام فترة كافية قبل بدء التنفيذ واشراك أكبر قدر ممكن من أصحاب المصلحة والترويج للمكاسب الممكن تحقيقها وذلك لتحفيف حدة المعارضة أو استخدام أصحاب المصالح السياسية الخاصة لهذا الأمر ضد المصلحة العامة.