قد يتعرض الإنسان في حياته لمواقف ظالمة تطبق فيها قوى غاشمة على عنقه، وتغلق مداخل الفرج والنور من حوله، فيُسلِّم أمره لخالقه، ويحتسب ثم ينتظر فتحه المبين. وهذا ما حدث (للدكتور) سعيد السريحي في زمن الواجهات والخفايا، لكن مصيبته كانت أكبر من غيره، إذ وقع عليه الظلم داخل مؤسسة تعليمية عريقة تحمل اسمًا عظيمًا لمكان مُقدِّس في الجامعة، وهي أعلى هيئة علمية تربوية، تبدّى الظلم في أقسى صوره ليضيق الخناق حول طالب وضع ثقته في أساتذة دبروا له أمرًا بليل. هل تتخيلون صدمة هذا الطالب، وقد أضيئت له الأنوار الخضراء ليتقدم لمناقشة رسالة الدكتوراة مطمئنًا؟ دون ذرة شك يقدم مشروع بحثه للدكتوراة فيتم قبوله من المشرف، والقسم، والكلية، والدراسات العليا، ينهي كتابة رسالته، فيتم فحصها والموافقة عليها محتوى ومنهجًا وأسلوبًا من المشرف، والقسم، والكلية، والدراسات العليا، والمحكّمين، ثم ترسل للمناقشين فلا يعترضون، ولا يترددون. يتقدم الطالب للمناقشة ضحية لعملية استدراج متقنة، وهو آمن على نفسه، واثق من معارفه، ثم تأتي المناقشة عسيرة وقاسية وساخرة، لكنها تنتهي بنتيجة مرضية، وتطالب بتعديلات يجريها الطالب، فيتم إعلان نجاحه شفاهة، وكتابة، وتوقيعًا. كل الأضواء الخضراء تزداد اخضرارًا، وينال الطالب ثمرة الجهد الكبير، ويمضي فرحًا وقد ذاق طعم النجاح. مَن منكم يستطيع أن يتخيّل الصدمة، بل النكبة التي بُلي بها السريحي؟ ما معنى اللانجاح بعد النجاح؟ أين ستذهب فرحة الأمس التي غمرت قلبه؟ وكيف ستفسح مكانًا للحزن والغضب وخيبة الأمل؟ في زمن الواجهات والخفايا كان الهمس ممنوعًا، فالكلام كان سيزيد الحفرة اتّساعًا وعمقًا. لا بد أن السريحي سلّم أمره لخالقه، واحتسب وانتظر فتحه المبين. في هذه الأيام التي شاع فيها النور واليقظة خرجت خبايا الأمور لتحق الحق وربما تنجح في إعادته لصاحبه. وقد يعود اللقب للسريحي بشكل رسمي، وقد يفرح قلبه، وقد يشعر أن عدل الدنيا قد يسبق أحيانًا عدل الآخرة.. ولكن! كيف سيتغلب السريحي، ومعه الكثيرون ممّن يتابعون مجريات قضيته مع الجامعة، على تلك المرارة العالقة في حلوقهم؟ كيف سيتخلص ويتخلصون من خيبة الأمل، وضياع الثقة في أساتذة الجامعات؟ تلك الصورة التي خلفتها هذه القضية في نفوس متابعيها عن سلوك أساتذة الجامعات أحدثت شرخًا في فكرة الناس عنهم، فهي صورة مسيئة ومشينة ومخربة لمن يفترض فيهم خلق العلماء ونزاهتهم وصدقهم وموضوعيتهم. من تابع القضية واستمع للمناقشة سيرعبه أن يرى أمامه أستاذًا جامعيًّا (دكتورًا) قادرًا على المكر والتصيد والاستهزاء، بل والكذب الفاضح، عجز بجهله أن يجاري علم طالبه، كما عجز عن الإيقاع به خلال المناقشة، فلجأ للخداع ووقّع بإجازة الرسالة أمام الحاضرين، ثم استدار وكتب تقريرًا سريًّا لإدارة الجامعة، يتراجع فيه عن قراره، ويعيب في الرسالة. تخيّلوا صدمة السريحي وهو يقف أمام الأستاذ يسأله عن حقيقة كتابته ذلك التقرير، فينكر نكرانًا شديدًا، بل ويقسم بحياة ابنته ببراءته من تلك التهمة!! ثم تخيّلوا صدمته وهو يرى التقرير بعينه بعد حين مكتوبًا بخط الأستاذ الذي أنكر وأقسم بهتانًا. أمّا الجامعة التي تحمل اسم (الأم) فقد تآمرت وتواطأت، ثم أصدرت حكمًا قاسيًا قضت به على جهود طالبها النجيب دون رأفة. نحن لم نعرف سعيد السريحي إلاّ دكتورًا، ولم يسأل الكثير منا إن كان يحمل الشهادة أم لا، ذلك أنه كان -ولا يزال- يملأ مكان الدكترة تمامًا، فلا يثير شكًّا في استحقاقه لها. لكن الجامعة الأم لا بد أن تؤكّد لنا استحقاقها لمسمّاها، وهي إن تخاذلت عن إعادة الشهادة لصاحبها، فعليها أن توضح لنا نصوص لائحة الدراسات العليا التي استندت عليها في سلبه إيّاها. هل يوجد نصٌّ يسمح لمناقش أن يتراجع عن إجازته الرسمية لرسالة؟ أو نصٌّ يسمح لمجلس الجامعة بالانحياز لرأي عضو واحد في لجنة، ويتجاهل قرارات باقي أعضائها؟ أو نصٌّ يسمح للمجلس الموقر أن يمنح أو يمنع إجازة رسالة بناء على معايير غير علمية، أو موضوعية، معايير المحبة والكراهية، معايير الرضا والإقصاء؟