كل كلام نقدي للأوضاع السائدة لبنانياً وعربياً، يشكل مساهمة احتجاجية ضد هذا السائد، ويشكل دعوة إلى الخروج على «المنظومة» التي تتحكم بالأوضاع العامة، العربية واللبنانية. مواقع النقد ومطارح صدوره كثيرة، لذلك على كل ذي اعتقاد احتجاجي رافض، أن يدلي بقوله من موقعه أولاً، هكذا يكون في مقام الفعل، وألاّ يتحول إلى معلق على ممارسة ومقاربة الآخرين فقط، فهكذا يكون في منزلة رد الفعل. الناقد المحتج عليه أن يذهب من الفعل، فيؤسس لفعله، وفي السياق يعتني ببناء منظومة أفعاله، مثلما لا يتوانى عن التصدي الفكري والعملي، لما هو مناوئ لها، ويحرص على التفاعل مع من يلتقي معه في القول وفي الممارسة، لقاءً ظرفياً أو مرحلياً أو طويل الأمد. لا حاجة للتذكير بمسمى التكتيك السياسي، ولا حاجة للتأكيد على أن كل تكتيك ظرفي يكون جزءاً من خطة أهداف عامة، آنية وقريبة وبعيدة. خارج الترابط بين الراهن والمستقبلي، تصير السياسة خبط عشواء. فهي حيناً انتقائية، وحيناً استنسابية، وحيناً عبثية، وأحياناً انتهازية لا تؤدي إلى مكان سياسي. من موقع اليسار، المعني الأول بإطلاق الصرخة الاحتجاجية، يجب القول أن هذا اليسار قد بات بلا تصور سياسي معارض في الحاضر، وبلا استشراف سياسي ذي خط اعتراضي مستقبلي واضح. ولأنه كذلك، فإن يسار الحاضر صار عبئاً على المستقبل، بدءاً من نقطة إعادة التأسيس، وفي محاذاة السير على خطوط التقدم السياسي إلى الأمام. عبء اليسار القديم هذا، يجب أن يزاح إزاحة نقدية حاسمة، أي يجب تجاوزه بوضوح كامل. هذا الوضوح لا يتوفر إلا من ضمن جملة شروط أساسية، أبرزها اثنان، الأول: عدم القطيعة مع الماضي على طريقة التبرؤ منه، أو اتخاذ موقف ندمي حياله، أو اعتماد صيغة ذم وقدح به. والثاني: تأمين النظرة التجاوزية البناءة لماضي اليسار، على قاعدة اعتراف كل يساري بأن ما حصل هو تاريخه الواقعي العياني، وبأن الخلاصات تخص كل ذي انتماء يساري، وأن هذا «الكل» مسؤول عن كل الحصيلة، وعليه، فإن اقتراح المستقبل يأتي على حاملة الاعتراف بالمسؤولية عن الماضي. المعادلة بسيطة، لكنها جدية، وخلاصتها: لليساريين أن يزهوا بما كان جميلاً في أزمنتهم، وعليهم أن يحنوا هاماتهم اعترافاً بما كان قبيحاً ورديئاً في هذه الأزمنة. هذا السلوك ضروري، والشفافية جواز مرور، إذ لا ثقة بيساري مخضرم، يستعيد ذاته الماضية، من دون أن ينبس بكلمة حول هذه الذات، ولا ضرورة ليساري ناقد معترف بأخطائه ومتراجع عن أوهامه، وليس عن أحلامه، إذا ما اكتفى بفضيلة الاعتراف، وانزوى بعد ذلك في زاوية البطالة النضالية. واجتناباً للتعميم، يجب تفكيك كلمة اليسار، وإعادة المصطلح إلى مكوناته الإيديولوجية والسياسية والحزبية، ومعاينة كل مكون على حدة. سبب ذلك، أن العمومية تفسح في المجال أمام هروب التفاصيل، وكل عام هو رداء تمويهي للخاص. في موسم النقد، لا بديل من الحديث على طريقة «ألا اسقني خمراً وقل لي هي الخمر»، ولا مناص من المناداة على «المتهمين» بأسمائهم الحقيقية، ولا يمكن إحضار هؤلاء، إلا مصحوبين بكل الأدلة «الجرمية». يسار الماضي، ما أكثر الأدلة على ضرورة اجتياز ماضيه، ضد إرادة أكثرية «سدنة هياكله»، واستجابة للمصالح الموضوعية للأكثرية الساحقة من العرب، ومن اللبنانيين. لا حركة قومية يسارية تنبض بالحياة اليوم. سقطت المدرسة القومية منذ زمن طويل. لا وجود لحركة القوميين العرب، الحركة التي فككها أهلها باكراً بعد هزيمة عام 1967. لا وجود لحركة ناصرية، فقد مات مؤسسها ورائدها باكراً، وما آلت إليه المدرسة في الواقع، هي نسخ السادات ومبارك والسيسي حالياً. خارج الحنين إلى الزمن الناصري، لا ناصرية، ولا يمكن إعادة إنتاج ناصرية وفق خصائص وشروط القرن الحالي، من مادة الأرشيف الذي بهتت أوراقه، وعلا خزائن محفوظاته الصدأ والغبار. مدرسة البعث العربي الاشتراكي انتهت على أيادي أبنائها. أكلت انقلابات سورية المدرسة ومضغت التجربة العراقية الحزب ومؤسسه، وتكفلت الخلاصات في البلدين العربيين بتبيان «الجريمة البشعة»، التي ارتكبتها التجربة البعثية بشقيها السوري والعراقي. من أمة عربية واحدة، إلى قبائل «لتناحروا»، ومن السير نحو التاريخ القادم، إلى الانسحاب إلى «مضارب العشيرة» وكهوف التاريخ. لقد سقطت الشمولية القومية عربياً، ومعها سقطت الشمولية الشيوعية بكل فصائلها ومسمياتها. ماتت النسخة الغيفارية في غابات بوليفيا، واندثرت التجربة الماوية فآلت بعد ماوتسي تونغ إلى نسخة «الاشتراكية الصينية» الحالية، وكان سقوط الاتحاد السوفياتي عظيماً، في الموعد الذي حدده أمين عام الحزب الشيوعي السوفياتي، بريجينيف، للوصول إلى مرحلة الشيوعية!. من الشيوعية إلى «البدائية»، عاد الوطن السوفياتي، الذي صار «أوطاناً»، ومن الاشتراكية إلى البربرية، التي تقود الرأسمالية المعولمة نسختها الحالية، ويستجيب لبربريتها كل «المجاهدين» الذين وفدوا من أدغال الفتاوى، وطلعوا على آمال المجتمعات بنصال وسيوف التاريخ!! وماذا تعني المسميات بعد أن تزول الأسس المادية لموضوعاتها؟ ماذا تعني كلمة شيوعية في لبنان؟ وأين تقع المطالب التي حملها أولئك الشيوعيون دفاعاً عن «العمال والفلاحين وصغار الكسبة»؟ واقع الحال، أن الشيوعيين مساهمون اليوم في عملية نهب المجتمع وترهيبه، وهم شركاء «لحكم الميليشيات» في التسلط، بتخليهم، وهم باحثون عن فتات «اعتراف» بوجودهم من أقطاب ومرجعيات الرجعية الدينية والسياسية، بانتهازيتهم السياسية والاجتماعية. لقد مُسخت الأحزاب فصارت أفراداً، وتقزمت الموضوعات فباتت مصالح شخصية، واضمحلت الحركة الاجتماعية، فآلت إلى تذكر متناثر لا تنتظم حباته في «عقد فريد». من ضمن اللغة العربية، يجب أن يواجه اليسار القومي والتقدمي والشيوعي خاصة بحرف «لا» النافية أولاً. يجب نفي الانتساب إلى مقولاته وأفعاله. هذا اليسار لا يمثل مصلحة لبنانية مستقبلية. وثانياً، يواجه اليسار كله بحرف «لا» الناهية، أو الزاجرة، خاصة للذين أعاروا اسم اليسار وراياته، إلى قوى الماضي المتحجرة. «لا ولا»، وبعدها لتبدأ كتابة وصناعة اليسار الجديد، كل اليسار.