أزماتنا المعيشية المتوزعة على مدار السنة هي نتاج مجموعة ملفات متناثرة، ويحدث أن تستأثر أزمة «ما» بملف من هذه الملفات، لأنه السبب الأول والوحيد لولادة هذه الأزمة. تتمثل هذه الملفات: بسوء التنظيم، والخلل في التخطيط، وغيبوبة المحاسبة، وعجز المراقبة، وقرارات ركوب الرأس، وانتهاء بالألعاب الفردية التي يمارسها من لا نستطيع مساءلتهم، وجميلٌ تفاؤلي في هذه الجزئية، لأن الجملة الأدق تفصح عن «أنه لا يمكن معرفتهم»، بل إن زادت الأسئلة، وكثرت الشكوك والاحتمالات.. ترمى بسرعة في رأس الضعيف، وما أكثر الضعفاء الذين تورمت رؤوسهم من رمي ملفات لا دخل لهم فيها! أزمة طحين تولد فتمضي بمن عانى تبعاتها إلى صمت قسري، لأن نتائج ما بعد الحديث أو الصراخ أشبه بذرّ الرماد في العيون، وتنتهي الأزمة بدرجة موزونة من الصمت، وكأن شيئاً لم يحدث، فتولد بعدها وبحبكة درامية اجتماعية أزمة غاز لتأخذ زمناً طيب الذكر، نعبث فيه برؤوسنا، ونحلّل أدق الأسباب بما بارك الله لنا فيه من المعرفة والتوقعات والإشاعات، وتنتهي الأزمة من دون أن نكتشف ولو عنصراً واحداً من الذين خططوا ذات ليل عن ذكاء أو غباء، لتصبح مساحة «ما» من وطني في أزمة مربكة ومزعجة. تنتهي أزمة الغاز، فتبدأ ملامح أزمة جديدة ومستحدثة لشخصية مشهورة من شخصيات الإفطار في السعودية، وهو «البيض» في ظل تمرير عبارة «من الطبيعي أن يرتفع سعر أي شيء»، من دون أن نعرف هل «من الطبيعي» مبنية على خطط وأمزجة التجار، أم على واقع اقتصادي دقيق ومقنع؟ لا يمكن أن تولد أزمة «ما» من دون أن يكون وراءها سبب رئيس «ما»، وأسطر «ما»، وأسرار «ما»، ولا يعني أن كل «ما» لم ترد في ما سبق تحتضن فساداً وتسيباً وإهمالاً مكتمل الأركان، لكن ولادة هذه الأزمات واشتعالها ثم انطفاءها بلا سبب واحد معلن أمر محير. لابد من أن نتصدى وطنياً لمثل هذه الأزمات برأي مسؤول، ولو على سبيل إذابة جبال الشكوك لدى المواطن ولوازمها من القناعة الصاعدة يوماً بعد يوم في أن أي نقص في الحاجات، أو عجز في الإمكانات يقف وراءه ديناصور مخيف اسمه «فساد»، لنداعب المواطن «مثلاً» في أن هذه الأزمات ليست إلا اختبارات «قياس» من نوع آخر، لاكتشاف درجات صبره، ومؤشر قدرته على التعايش مع حالات مفاجئة، وأمام لحظات لم يكن يتخيل يوماً أنه سيعيشها، لنقل ولو عبر صوت متأخر إن أية أزمة طارئة هي أشبه بامتحانات مفاجئة لمسرحيات إيجاد البديل المناسب أو اختراعه. الصمت تجاه هذه الأزمات عادية الملامح بالغة التأثير على الصعيد الشعبي، والسكوت عمّن يقف وراءها لن يقدم إلا مواطنين يغلّبون الشك دائماً، ويؤمنون أكثر وأكثر أن جيوبهم الهدف الأول لكل تاجر أو متنفع، وأن ما يصل لأيديهم من مال «لَهُ» محصلّوه الجشعون القادرون على امتصاصه، ومن يد المعيشة التي توجع، من دون أن يتمكن أحد من كشف المحصلين المستترين ولو لمرة واحدة.