بعد تحول العديد من التونسيين إلى إرهابيين بقتل من كانوا أشقاء لهم سواء في تونس وليبيا وسوريا أو مع داعش، أصدر الدكتور مازن الشريف المفكر الإستراتيجي التونسي في الشؤون الأمنية والعسكرية، ورئيس قسم الاستشراف ومكافحة الإرهاب بالمركز التونسي لسياسات الأمن الشامل، كتابًا ذا قيمة كبيرة بعنوان «رحلة في عقل إرهابي» في دراسة لمنظومة العقل الإرهابي، عبر بيان «الطرق» التي توصل ذلك العقل للإرهاب، والتمشيات والأطر الخارجية التي تساهم في ذلك، وأرفقه بملحق فيه دراسات ومقالات ذات صلة، ليس الإرهاب مجرد ظاهرة حركية تقوم على القتل والتفخيخ، بل لديه جذور اجتماعية ونفسية وثقافية وعقائدية وروحية، ولديه محركات ونظم تزرعه وتستخدمه، ولا مناص من رؤية علمية شاملة لتفكيك ألغامه الفكرية قبل انتقالها للمرحلة التفجيرية. ويؤكد الكاتب أن موضوع الإرهاب، يشغل العالم اليوم فهو العدو الأشرس والأخطر والأكثر دموية، هو عدو للإنسان وللحضارة ولكل كائن حي ومعنى جميل، والمشاهد الدموية التي تأتينا من هنا وهناك مع ما فيها من أشلاء ودماء وهلع ودمار، هي مشاهد تثبت قوة الظلام القابع في قلوب ونفوس مريضة، ومدى حرص تنظيمات معينة -لها صلات بدول أو دويلات- على تدمير الكوكب كله لو وجدت إلى ذلك سبيلا، فالخطر الإرهابي ليس على شعب أو أهل ديانة أو دولة ما، بل هو خطر إنساني عام، وعلينا جميعًا -المؤمنين بإنسانية الإنسان- أن نصطف معًا لوقف هذا الطوفان من الدم والحقد والموت، ضمن دراسة وتفكيك وخبرة في مجالات مختلفة لها أن تتفاعل لتبني نموذجًا دقيقًا ولتعطي رؤية أوضح، تمت صياغة هذا الكتاب الذي أردته رحلة في عقل إرهابي، لأن فهم الظاهرة من الداخل أغنى وأهم من وصفها من الخارج، ولأن من أهم قواعد فنون الحرب فهم عقل العدو، وقراءته والغوص فيه ثم التصور بتصوره وبناء النظم المضادة وفهم نقاط الضعف والقوة. وسيكون الكتاب اختزالاً لمسائل كثيرة تتعلق بالعقل الإرهابي ومكنونات الذات الحاوية له من جانبها النفسي والذهني والعقائدي والاجتماعي ونظم برمجتها وتفعيلها وأطرها الداخلية وصلة ذلك بنظم خارجية وتفاعلات مختلفة. المفهوم العام العقل الإرهابي هو عقل بُرمج على الإرهاب، لكن هذا المعنى لا يكفي وحده، لأن جانبًا مهمًا من العقل الإرهابي هو العقل الذي بُرمج على الإرهاب، بنسبة الفعل إليه، وهنا شبكة معقدة من العقول التي تدعمه وتبرر له، والتي تموله، والتي تبرمجه وتفعلّه وتأمره وتفجره في الوقت المناسب، وإن دراسة المنظومات الإرهابية فيما نعلم من تاريخ الأرض كله، توصلنا إلى توافقات كثيرة وتشابهات عديدة، رغم اختلافات في جوانب من التفصيل، ولكن الذي يبرمج على القتل والتدمير يخضع لنفس المراحل تقريبًا، إن النازية فكر إرهابي قام في جانب منه على قداسة العنصر مع دنس بقية العناصر ووجوب تطهير العالم منها، كما قام فكر الخوارج على احتكار القداسة، ونفيها عن بقية المسلمين، وتبرير قتلهم من أجل ذلك، وهو ما تجدد فيما بعد بصيغ وأسماء مختلفة، وحتى القتل في الحروب المقدسة كان يبرر بزرع فكرة الدفاع عن الرب أمام أعدائه، وهذا ما يفسّر الدموية الكبيرة للحروب الصليبية والمجازر التي تمت فيها، ونفس المبادئ يزرعها الحشاشون في عقول أتباعهم، وضمن ذات الأطر تعمل تنظيمات القتل في جوانب من الياكوزا والمافيا العالمية ولئن كان لها مخططات أخرى ودوافع مختلفة ولكنها تتواصل مع الإرهاب ذي الصبغة العقائدية، والدليل الارتباط الوثيق بين تنظيم القاعدة والمافيا العالمية في تجارة المخدرات والأسلحة والتهريب والاتجار بالبشر، ولربما كان كاليغولا في فورة جنونه، أو نيرون في حالات عطشه للنار والموت، أو جنكيز في مجازره الأشد دموية في تاريخ الحرب، أو مراد بوبالة في هلوساته وظمئه الشديد للدم، وكذلك الجنرال فرانكو وموسوليني وهتلر، وسواهم من مجانين الحروب وعشاق القتل والدم، ربما أنهم جميعًا يرضون ربهم الذي يتواصلون معه بأوهامهم التي أخذت صبغة الحقيقة المطلقة. الغوص في عقل إرهابي للغوص في العقل الإرهابي علي أولا أن أخصص الكلام عن العقل الإرهابي التنظيمي، لأنه يوجد عقل إرهابي مرضي أو عرضي، بمعنى أن نفوسًا مريضة ما يمكنها أن تتخذ بعدًا إجراميًا يصل إلى الإرهاب الذي يحمل معاني القتل والترويع والتشفي، ولكن كل هذه العقول لا شك مرّت بتمشٍّ مطابق لما سأبيّنه ولو كان المفعّل باطنيًا وذاتيًا مع عوامل خارجية لكنها لا شك تأثرت بمجرم معيّن أو بأفكار محددة مع سلسلة تتابعية مع الأحداث والمؤثرات التي حولت النفس والعقل والذات ككل إلى تلك الصبغة اللاإنسانية والدموية المتوحشة ضمن بعد الإضمار والتخفي -مثل القاتل المتسلسل أو الإظهار والتشفي- مثل مجانين الطغاة، ولكن فيما يخص رحلتي هذه في العقل الإرهابي فإني أخصصها للتنظيمي منه، والذي ينخرط في نظم عنقودية لها مخطِّط ومخطّط ربما لا يعلم العقل الضحية منها إلا أوهامًا زُيّنت له وزرعت فيه لتكون عنده أشد الحقائق يقينًا وأجلى المسائل وضوحًا، للغوص في العقل الإرهابي علي أيضا أن أميّز بين نموذجين عقليّين: العقل المدبّر، والعقل المدمّر. العقل المدبّر هو عقل يتقن فنون البرمجة العقلية والنفسية، يبحث في الثغرات ويحاصر عقل ضحيته بنظم فكرية وبرمجية حتى يخترقه ويتمكن من غسله وإعادة برمجته على أمر واحد: التفجير، وهذا العقل لديه بعد استخباراتي ولديه خبرات كثيرة، وهو على مستويات أخطرها: العقل الخفي الذي لا يظهر ويصعب الوصول إليه ويمكنه العمل من خلال شبكات يحركها في دوائر لا تعرف دائرة أختها، ثم العقل التقي وهو عقل يدعي التقوى والمبادئ والمتطرف ضمن منظومة العقل التقي يستخدم مخزون الروح والمعتقد ليلبس أفكاره التخريبية صبغة القداسة وتصبح عقيدة لدى معتنقيها، وطبيعي أن ما أسميه العقل الخفي يكون مشرفًا على ما أسميته العقل التقي ويكون الثاني في صلة مباشرة مع العقول المدمِّرة والمدَمَّرة. العقل المدمِّر: هو عقل تمت برمجته على التدمير، ومرّ بمراحل نظريتي الثلاثية (التنظير، التكفير، التفجير)، وهو عقل مُدمَّر قبل أن يكون عقلا مدمِّرا، فيتم تدمير كل قدرات التحليل والتمييز والنقد لديه كما بينت في مرحلة التنظير ثم يستمر حشوه بآليات التدمير ومبرراته، ولا تجد إرهابيًا في العالم كله إلا ولديه معتقد يتطرف ويتعصب له. منظومة التفاعل يتفاعل العقل عبر الاستلاب والتنويم وفالعقل المدبّر يدعي أنه قريب من العقل المدمّر يريد تحريره وإيقاظه وإصلاحه، حتى يسلبه تدريجيًا فيكوّن بذلك رابطًا علائقيًا ذهنيًا عاطفيًا يغلب عليه الوهم، لذلك ترى طاعة الانتحاريين والتكفيريين لقادتهم طاعة عمياء وكذا كل مستلب في طاعته لمن اخترق نظامه العقلي الذهني العاطفي، أمر يمكن أن تراه في نموذج الحشاشين وعقيدتهم الفاسدة ونزعتهم الانتحارية المرعبة لمجرد أمر من زعيمهم، أما التنويم فهو طريق الاستلاب والسلب الكلّي، فيكون المنوّم مخدّرًا مختل النظم عاجزًا عن التمييز فاقدًا لآلية التحليل والقدرة على النقد، أما «الدمغجة» فهي كيفية الاستلاب وناتج التنويم فبعد أن يتم تخدير العقل وتنويمه إيحائيًا ومغناطيسيًا بأشكال جزئية أو كاملة عبر نظم تستخدم حتى تكرار آيات من القرآن بشكل مبالغ فيه. المزيد من الصور :