اليوم هو يوم التروية، يوم التزود للغد يوم الحج الأكبر، تكمن هنا واحدة من إضاءات الإسلام الروحية العملية، وأين؟ في منى استعدادا لثالث أيام الحج يوم العيد الأكبر، يوم التضحية والأضحية. هو يوم التجانس بين أمور الدنيا والآخرة، هو هذا المزج بين العبادة والأخذ بالأسباب، هو الفرق بين التوكل والتواكل، هو التزود للحج رحلة العمر بما يعين يوم الحساب بعد نهاية الرحلة. قرر عليه الصلاة والسلام أن خير الزاد التقوى، والتقوى في الحج تظهر في سلوك الحاج أثناء صعوبات الحج المشابهة لصعوبات ومشاكل مشوار الحياة، لذا جاء في الأثر أن الدين المعاملة، ومن قبل ومن بعد ألم يبعث عليه الصلاة والسلام لإتمام مكارم الأخلاق، وكل هذا يتمثل في الحج. يذهب الحجاج إلى عرفات الله حفاة عراة كيوم ولادتهم، لكنهم يذهبون اليوم محملين بذنوبهم وخطاياهم، وهناك يتحللون منها ليعودوا كيوم خلقتهم أمهاتهم خالين من آثامهم جزاء للحج المبرور، يبدأون أولى خطوات الحياة الجديدة إلى المزدلفة العراء الدامس ليلها كدروب الحياة المعاشة، ثم يصبحون إلى منى ليجدوا ما أعدوا لحياتهم الجديدة وليحتفلوا بعيدهم الأكبر كيوم ولادة جديد ينطلقون منه إلى الحياة مجددا بقلوب طاهرة نظيفة. لذا قيل إن الحج رحلة عمر، ليس فقط تطهرا من الذنوب، ففي الحج يتعلم الإنسان في أيام معدودات ما يحتاج طوال العمر، يتعلم أن النية الطيبة وحدها لا تكفي، الاستعداد الروحي وحده لا يكفي، الأهم هو الممارسة والسلوك مع الرب سبحانه وباقي مخلوقاته، يتعلم أن قيمة المسلم ليس مقدار ما يحفظ من القرآن الكريم إنما مقدار ما ينفذ منه ويتمثل به. يغسل الحج قلب الحاج مما علق به في رحلة الحياة من أدران الدنيا وآثامها، يحج دون رفث ولا فسوق ولا جدال وكذلك يجب أن تكون حياته، ومع تفرغه للعبادة لا ينسى ضرورات الحياة أو حتى نصيبه منها، ليس في ديننا كهنوت وتفرغ للعبادة لأن الذي خلقنا لعبادته فرض علينا إعمار الأرض، وفضل سبحانه عاملنا على عالمنا. اللهم أتمم للحجاج حجهم وأعدهم سالمين غانمين إلى أوطانهم، وتقبل اللهم صيام من صام العشر أو من سيصوم الغد يوم عرفة الذي يكفر سنتين، تقبل الله من الجميع صالح أعمالهم.