غدت كلمة الديموقراطية، وبخاصة في الآونة الأخيرة، واحداً من الشعارات السياسية الكبرى في الساحة العربية. وشهدت بلدان العالم العربي - التي لم يعرف تاريخها هذا الضرب من التقاليد السياسية الحديثة - في السنوات الأخيرة أحداثاً عنيفة تشي أساساً بنوع من الإحساس لدى المشاركين فيها بافتقار الأنظمة العربية الى ما يمكن تسميته الحداثة السياسية. واليوم لا أحد بمقدوره أن يجادل أو ينكر أن التمردات الشعبية التي عرفتها بعض البلدان العربية في بداية العشرية الثانية من هذا القرن قد آلت الى نتائج خيبت آمال عريضة للكثير من الفئات الشعبية وفي مقدمتها الشباب العربي. اذا نحن سلمنا بهذه الحقيقة، فإن السؤال الكبير المشروع الذي يطرح نفسه بقوة وإلحاح شديد في هذا السياق هو التالي: ألم تكن الخيبات المريرة أمراً منتظراً في ضوء الشروط والمعطيات التاريخية العامة لمجتمعاتنا العربية المعاصرة؟ ألم يكن هذا الفشل الذريع والموجع واقعاً متوقعاً على الأقل عند كل من امتلك قدراً من الوعي العميق بالشروط العامة للمجتمعات التي تفجرت فيها الانتفاضات الشعبية؟. لنذكر أنه على رأس هذه الشروط توجد طبيعة الثقافة السياسية المهيمنة على العقول وجملة القيم التي تسكن الأنفس وتلهج بها غالبية الألسن بكل عفوية وتلقائية وما ينطوي عليه كل هذا من وعي يتعلق بماضي هذه المجتمعات وتاريخها المديد، وبالتالي من صور تشكلت وترسخت في الأذهان بخصوص الشخصيات السياسية الكبرى والأحداث البارزة التي قدمت في كتب السيرة والمغازي والأخبار وتجارب الأمم وغيرها من المؤلفات الإسلامية المتوارثة على أنها نماذج دنيوية شبه مقدسة ومرجعيات حياتية سياسية وأخلاقية مثالية. وغير خاف على أحد أن هذه المرجعيات يتم تقديمها قدوة حسنة للناس في وجودهم وسلوكهم وأحكامهم وفي تدبير الشأن العام وبناء كل مؤسساتهم الاجتماعية والثقافية والتربوية. لقد كان الرهان الأكبر للحركات التمردية الشعبية التي هزت أركان الأنظمة السياسية العربية في الآونة الأخيرة وفق ما جاء في أهم الشعارات التي بحت بها حناجر المتظاهرين هو الحداثة السياسية، أي باختصار تحقيق الديموقراطية وتأسيس دولة الحق والقانون التي تقوم على احترام لحقوق الإنسان وحرياته وصون لكرامة الفرد بغض النظر عن جنسه أو انتماءاته المختلفة، كما تقوم على ضمان شروط حياة تليق بالكائن البشري التي لا تختزل في ضمان القوت والمأوى وتأمين السلامة والممتلكات، بل تمتد الى القيم الرمزية السامية التي لا تقبل أبداً المساومة ولا المقايضة أو التفاوض بصددها وعلى رأسها الحريات الفردية التي تعاديها الدول ذات الروح التسلطية وتخاصمها الحكومات الاستبدادية بمختلف صيغها. غير أن هذا الأمر لا يعني البتة أن هذا الخطاب السياسي الذي علت به أصوات المتمردين والساخطين على الحكام ينطوي على وعي تاريخي نقدي يسلم بمسلمة أضحت من البديهيات لدى المؤرخين الدارسين لتبلور الثقافة الديموقراطية الحديثة تتمثل في مقولة أساسية، وهي أن الحداثة السياسية تفترض بالضرورة امتلاك ثقافة ديموقراطية حقيقية. وهذا يعني توافر ثقافة يؤطرها ويوجهها فكر متخلص من مقولات الرؤية الأسطورية للتاريخ ومستند الى مفاهيم التصورات الحديثة التي تستوجب التجنيد والحضور في كل عملية قراءة حاضر وماضي المجتمع الديموقراطي، وذلك انطلاقاً من أسس ومنطلقات الفهم والتفسير العقليين بوصفها عتاداً أمسى متاحاً ومتوافراً بفضل مغامرات تنظيرية ومبادرات جسورة لأجيال من المفكرين الأوروبيين الأفذاذ يعرفها اليوم كل قارئ منفتح له اطلاع بمسارات تاريخ الحداثة. من المعلوم أنه لا وجود لجماعة انسانية أو مجتمع من المجتمعات البشرية من غير تاريخ أو ماض وأن قيمة قراءة كل مجتمع لماضيه تناط بالنماذج المنهجية والمعرفية التي تستلهمها وتوظفها نخبه المستنيرة. واليوم سيبقى مطمح أو مطلب الديموقراطية غير مستوف لأهم الشروط الضرورية الضامنة لتحقيقه ان لم يحصل الاكتراث بسؤال مركزي وبصورة وجودية حاسمة بوصفه أولوية من أولويات الباحثين والمثقفين العرب المعاصرين. سؤال يعتبر في نفس الوقت من التحديات العظمى والذي لم يطرح بعد في المجتمعات العربية باعتباره تحدياً مصيرياً الذي يلزم رفعه في أفق تدشين الثقافة الديموقراطية وقيمها. يتعلق الأمر بمدى استعداد والتزام المجتمعات العربية المعاصرة التعاطي مع المعارف الكونية المؤهلة لولوج عالم التاريخية، وبالتالي قبول هذه المجتمعات كمؤسسات أكاديمية و كنخب فكرية تتكفل بالتخطيط وصياغة الأسس والأركان القادرة على بناء سياسة تعليمية ترتبط ارتباطاً عضوياً باستراتيجيات البحث العلمي المتجدد باستمرار من حيث الرؤى والمقاييس والإشكاليات النظرية، بمقاربة الماضي والتاريخ الإسلامي على الخصوص من منظور مستلزمات المعرفية التاريخية ومناهجها النقدية. وبالتأكيد ستترتب لا محالة عن هذا التوجه النقدي وهذه القراءة المعرفية الثورية نتائج اجتماعية وسياسية ونفسية عنيفة من المنتظر أن يكون لها وقع الانفجارات البركانية الحارقة على مستوى الوعي والخطاب والعواطف والوجدان والتصورات التاريخية الموروثة والثقافة المأثورة، كما على صعيد الصلة بالمعتقدات الدينية ونسق التمثلات الجماعية السائدة.