للموت طعمٌ مختلف تماما عن المفهوم السائد عنه، فهو عند أكثر الناس انقطاع أمد الحياة وآمالها، وتجمد الدماء في عروقها، وانطفاء مشاعلها، وانكفاء مواعينها، وفقدان الأنس بأحبتها، وطي صفحاتها. ولكنني وجدت للموت طعما آخر، وأنا أغالب حرَّ المصاب في وفاة خالي الشيخ حسن بن زيد الحليبي رحمه الله، وأسكنه فسيح جناته.. أبكي بدموع أمي التي رأت أن جزءا منها رحل قبلها، وكانت تتمنى ـ حفظها الله ورعاها ـ أن تُفدِّيه بنفسها، أَشْرَقُ بألم أبي الذي كان له صديقا وحبيبا وخليلا، وقد شعر بأن ركنه الذي كان يستند إليه قد انهدم، وأن مرجعه ومستشاره في الملمات مضى وتركه وحده، وأنه لم يبق للمجالس التي يغشاها جمال كجمالها حين كان (حسن) يتصدرها، وينهَلُّ بأحاديثه المتدفقة بالذكريات، التي كان يرويها بتفاصيل تنمُّ عن ذاكرة دقيقة، وبمعجم لفظي مُبهر لكل مفردات الحياة قبل ستين عاما وأكثر، بعضه اندثر من الوجود الفاعل في المجتمع، ولم يبق إلا في المتاحف والكتب التراثية. صرتُ أرى خالي في كل صديق له جاء إلى مجلس العزاء يثني خيرا، ويذكر برًّا، ويدعو حبا وصدقا أن يجمعه به في جناته. وقد أتردد وأنا أقول: قضيت أوقاتا طويلة مع خالي ـ في بيت جدي زيد ـ في طفولتي، ونلت من تربيته وتوجيهاته، المتزينة بعقله الذكي، وتدبيره العميق، وعشت معه ـ بحسي ـ وأنا أسمع ابنته أمَّ أولادي تذكر كرمه الغامر مع أمها وعياله، وأنسهم بمجالسته، وحرصه عليهم وسؤاله عنهم فردا فردا، آخذا بمنهج الحزم والحب، يسأل عن غائبهم، ويحتفي بزائرهم، ويوجه ناشئتهم، ويحتفل بناجحهم، ويخفي ألمه عن أعينهم؛ مخافة أن تتألم لذلك صدورهم. أتذكر أيامه الجميلة، وهو يقصُّ علينا ما لم نُدركه من حياة الأجداد، وكفاحه في دروب العلم والتجارة والرجولة، وكيف حدد أهدافه بدقة وحققها بجدارة، بل رأيت من ذلك كثيرا، وهو يسبق الفجر إلى عمله الحرّ، ليدرك دوامه الرسمي، فنجح في هذا ونجح في ذاك، وكان يحكي لنا كيف كان يحتوي المشكلات التي تنشأ ـ عادة ـ في المدارس التي أدارها، والتي أشرف عليها، دون تفريع لها، ولا تصعيد، حتى يظن مسؤوله أن تلك المدارس لا تمرّ بأية عقبات ولا خلافات. كلُّ آلام الفقد التي جلدتني بسياطها، لم تستطع أن تُخفي عني جمال الوجه الآخر لـ(الموت) الذي يهب للحياة طعمها الحقيقي، حين نعيش الدنيا برؤية الآخرة، حين يتحول الفناء الدنيوي المحدود الأمد إلى خلود رائع ماتع، حين يدفع الموتُ المؤمنَ ليعيش عمرا أطول، فيبذل من ماله وجاهه ووقته لأثر يتركه بعده، فإذا كان المتنبي يرى أن الذكر للإنسان عمر ثانٍ، فإن الصادق المصدوق ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحدثنا: إنَّ ممَّا يلحقُ المُؤْمِنَ من عملِهِ وحسَناتِهِ بعدَ موتِهِ: علمًا علَّمَهُ ونشرَهُ، وولدًا صالحًا ترَكَهُ، أو مصحفًا ورَّثَهُ، أو مسجدًا بَناهُ، أو بيتًا لابنِ السَّبيلِ بَناهُ، أو نَهْرًا أجراهُ، أو صدقةً أخرجَها من مالِهِ في صحَّتِهِ وحياتِهِ تلحقُهُ من بعدِ موتِهِ. (حديث حسن). وهو ما فرحت به لفقيدنا، وهو ما جعل آخرين يتحدثون عن صدقة السر التي كان يخرجها ويصرُّ على من أوصلها ألا يبوح بها لأحد، وعن مسجد بناه في حيه، وجامع يجري الآن بناؤه، وقد سلَّم تكلفته لمن يقوم عليه، وعن مساعدته لأرحامه وسعيه في شؤون من احتاج إلى وقفته معه، وعن ترديده شهادة الحق في كل فترة ينتعش فيها حسُّه وهو على سرير مرضه الأخير، يريد أن يلقى الله تعالى بها. (الموت) أمر لا بد منه، وحقيقة لا فكاك منها، فلماذا لا نقرؤها بعينين أكثر بصيرة، فبدلا من أن نشعر بأنه السيف الذي يقطع بحده آمالنا وأعمالنا ويحرمنا من أحبابنا، نعقد معه سباقا بأن نسعى ـ قبل أن يختطفنا ـ أن نحقق وجودا خالدا بعده، أكثر من وجودنا قبله، لنجتمع هناك في دار الخلود اجتماعا لا شقاء معه، {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}. المشرف العام على مركز بيت الخبرة للدراسات والبحوث الاجتماعية