يُجمع المتابعون للأحداث العالمية الكبرى، التي شهدتها نهاية القرن الـ20 وبداية القرن الـ21، على أن الملك عبدالله بن عبدالعزيز -رحمه الله- كان من أكبر المساهمين في تحقيق نجاحاتها والتخفيف من آثار إخفاقاتها؛ فلقد كان الرجل يحمل على عاتقه -إضافة إلى أمانة خدمة الحرمين الشريفين وأمانة شعبه- اهتمامات وهموم الشعوب العربية والإسلامية والإنسانية جمعاء. وقد تجسد ذلك بجلاء في مواقفه ورؤاه وإنجازاته. ولأن إنجازات الملك الراحل ومواقفه كانت متنوعة بتنوع التحديات التي تواجه الأمتين العربية والإسلامية، وطاولت جميع تلك المجالات، ومن ثم لا يمكن الإحاطة بها في أسطر كالتي نحن بصدد كتابتها، فإننا سنكتفي بعرض نماذج من تلك المواقف الخالدة كشواهد على سعة أفقه السياسي وعمق نظره الاستراتيجي، وانشغاله بقضايا الأمتين الإسلامية والعربية وأمنهما ووحدتهما، من خلال مواقف ومبادرات ومقترحات ارتبطت باسمه في المحافل الدولية والإقليمية على مر التاريخ. فعلى المستوى العربي، أجمع الخبراء والسياسيون على أن مبادرة السلام العربية التي اقترحها الملك عبدالله ابن عبدالعزيز في القمة العربية المنعقدة في بيروت عام 2002 حين كان ولياً للعهد، تمثل أمثل حل سلمي دائم لمعضلة الاحتلال الإسرائيلي، وصيانة مصالح الأمة العربية والشعب الفلسطيني، واستعادة القدس عاصمة للدولة الفلسطينية، والأقصى رمزاً للأمة الإسلامية. وهي كذلك تمثل حلاً واقعياً واستراتيجياً يأخذ في الحسبان موازين القوة وقابلية التطبيق مع صيانة مصالح الأمة العربية، والشعب الفلسطيني على وجه الخصوص، وقد تم تبني المبادرة وإعادة تبنيها في القمم العربية بوصفها الحل الوحيد الذي يحقق مطالب الشعب العربي، مع قابلية للتطبيق على الأرض. وعلى مستوى التعاون الإسلامي، شكلت القمة الإسلامية الاستثنائية الثالثة المنعقدة في مكة المكرمة في كانون الأول (ديسمبر) 2005، التي دعا إليها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله، بعد توليه الحكم بأربعة أشهر فقط، منعطفاً حاسماً في مسيرة منظمة التعاون الإسلامي يبرهن على اهتمامه بالعالم الإسلامي وحرصه على النهوض به وبمنظمته. وقد تجسد هذا التوجه بجلاء في بنود البرنامج العشري لمواجهة تحديات الأمة الإسلامية في القرن الـ21 2005-2015، الذي صادقت عليه القمة المذكورة. فبموجب هذه الخطة دبت الحياة من جديد في منظمة التعاون الإسلامي، بدأ بتعديل ميثاقها ليواكب تطور العاقلات الدولية، إذ تم توسيع التعاون الإسلامي ليشمل مختلف المجالات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والعلوم والتكنولوجيا، وأعيد ترتيب أهداف ومبادئ المنظمة لتشمل مواجهة التحديات المعاصرة مثل الإرهاب والجريمة المنظمة، وأخذت المنظمة اسماً وشعاراً جديدين إعلاناً لميلادها من جديد؛ مروراً بإعادة هيكلتها التنظيمية التأسيسية، وانتهاءً بتكريس مبادئ حقوق الإنسان والعمل الإنساني والإغاثي ضمن الأنشطة والبرامج ذات الأولوية بالنسبة إلى المنظمة. وكل ذلك في إطار رؤية إسلامية للتعاون الدولي؛ قائمة على المزاوجة بين الأصالة والحداثة والواقعية. وفي موضوع الإرهاب الدولي وضرورة التصدي له بقوة وحزم، فقد تفطن الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز منذ وقت مبكر إلى هذا العدو غير التقليدي، الذي يهدد العالم بأسره، ودعا إلى عقد مؤتمر دولي لتدارس هذا الخطر المحدق، والتوصل إلى سبل مواجهته قبل فوات الأوان، وقد تم في إطار جهوده عقد مؤتمر دولي في الرياض سنة 2005 حول الإرهاب بمشاركة 56 دولة وعدد هائل من المنظمات الدولية والإقليمية، وأعرب المؤتمرون في بيانهم الختامي على تقديرهم لجهود ولي العهد السعودي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز، التي أدت إلى انعقاد هذا المؤتمر ونجاحه، كما أكدت نتائج المؤتمر صدقية مخاوف الملك عبدالله بخصوص خطر الإرهاب، ودعت إلى ضرورة التصدي للظاهرة في إطار مجهود جماعي دولي يُمكِّن من القضاء عليه، طبقاً لتصوره حول الموضوع. وفي إطار استشعاره لخطر الإرهاب كذلك، دعا الملك عبدالله بن عبدالعزيز إلى إنشاء مركز دولي لمكافحة الإرهاب، تابع للأمم المتحدة يكون من مهامه الدراسة الاستشرافية، وضمان تبادل الخبرات والمعلومات بين الفاعلين في مجال مكافحة الإرهاب، والعمل على وضع اتفاق دولي لمكافحة الإرهاب، يقدم تعريفاً موحداً للظاهرة، ويضع الآليات الدولية لمواجهتها، وقدم دعماً سخياً لهذا المشروع قدره 100 مليون دولار، وقد أشادت الجمعية العامة للأمم المتحدة في قرارها رقم 10/66 بتاريخ 18 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011 بهذه الخطوة؛ داعية إلى تجسيد الفكرة على مستوى الأمانة العامة للمنظمة، لكن المصالح المتنافرة لبعض الدول، ولاسيما الكبرى، حالت دون اعتماد المشروع ووضعه موضوع التنفيذ، كما تصوره ودعمه الملك الراحل. ومما لا شك فيه، أنه لو تم تنفيذ رؤية الملك عبدالله بن عبدالعزيز بشأن مكافحة الإرهاب الدولي، التي رصد لها هو شخصياً الدعم المالي اللازم لدحض أعذار الممانعين، لما آلت الأوضاع إلى ما هي عليه حالياً، ولما كنا اليوم أمام تحدٍ إرهابي دولي خارج تماماً عن السيطرة، وجماعات إرهابية تتحكم في مناطق وأقاليم كاملة، بل وتنشئ دولاً خاصةً بها. ولئن كان الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز قد ترك خلفه إرثاً عظيماً من المبادئ السامية والمواقف النادرة والشجاعة، فإنه قد خلف -أيضاً- رجالاً قادرين على حمل الشعلة بعده بأمانة واقتدار، فالملك سلمان بن عبدالعزيز يمثل بحق خير خلف لخير سلف. وتبشر إنجازاته، التي تشهد بها مدينة الرياض حين كان أميرها ويؤكدها العمل الإنساني في البوسنة، إذ لقب «ابن البوسنة البار» وفلسطين التي أطلق فيها شعار «ادفع ريالاً تنقذ فلسطينياً»، وغير ذلك من بصمات تركها في أحداث العالم الكبرى، أن ريادة المملكة لن تتوقف.