مضت خمسة عقود على انطلاقة الحركة الفلسطينية المعاصرة في عام 1965، إلا أن الطبقة السياسية التي تولّت قيادة هذه الحركة وهندستها، وتحكّمت بها، ما زالت هي ذاتها تقريباً، بأشخاصها وأفكارها وطرق عملها. وإذا كان متوسط أعمار هذه الطبقة في الثلاثينات، في ذلك الوقت، فهذا يعني أننا اليوم إزاء قيادات هي في أواخر الستينات أو السبعينات، على أقل تقدير، وهذا يشمل أعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير وقيادات «فتح» والتنظيمات الأخرى، وأعضاء المجلس الوطني ومسؤولي المنظمات الشعبية. المؤسف أن لا أحد يولي هذه القضية الاهتمام المناسب، كأنها مسألة شكلية أو ثانوية، أو مجرد حديث عما يعرف بـ «صراع الأجيال»، بينما هي مسألة سياسية وبنيوية، تكشف أزمة الكيانات الفلسطينية (المنظمة والسلطة والفصائل)، التي تبدو في حال تكلّس وعجز وتقادم، فلا هي راغبة في تجديد شبابها وحيويتها، ولا هي قادرة على تجديد شرعيتها. لهذه الطبقة القيادية طبعاً ما لها وعليها ما عليها، فهي التي أخذت على عاتقها مسؤولية استنهاض الفلسطينيين بعد النكبة، وبناء كيانيتهم السياسية، وبلورة هويتهم الجمعية، لكنها أيضاً مسؤولة، بالقدر ذاته، عن تعثّر حركتهم الوطنية، وترهّل أحوالها، وأفول مكانتها. لنلاحظ أن هذه الحركة، طوال 50 عاماً، لم تستطع إنجاز الأهداف التي أخدتها على عاتقها، ولم توفّق في الخيارات التي انتهجتها، في الكفاح المسلح وفي التسوية، في الانتفاضة وفي المفاوضة، فضلاُ عن أنها لم تحافظ على وضعها كثورة او حركة تحرر ولم تفلح في التحول الى سلطة، لوقوعها تحت سلطة الاحتلال. المشكلة أن قيادة هذه الحركة لم تقف ولا مرة في مواجهة ذاتها، لمراجعة شعاراتها وفحص خياراتها ونقد تجربتها. فاقم من ذلك انتقالها من حال إلى أخرى، بصورة مفاجئة، لا علاقة لها بسابقتها، من حيث الخطابات وأشكال العمل والإطارات المعتمدة. يأتي ضمن ذلك، مثلاً، انتقالها من حركة تحرر وطني إلى سلطة، ومن هدف التحرير إلى إقامة دولة في الضفة والقطاع، ومن العمل المسلح إلى المفاوضة، ومن الحرب الوجودية ضد إسرائيل إلى التعايش معها كدولة في حدود ما قبل 1967. والمعنى أن الحركة الفلسطينية، في نقلاتها الكبيرة والخطيرة تلك، لم تصفّ الحساب مع تراثها السياسي، ولم تفسّر، او توضّح، مبرّرات ذلك لشعبها، او للمنخرطين فيها. بالمحصلة نحن إزاء جسم قيادي انتقل من محطة إلى أخرى، ومن حال إلى غيرها، على رغم انه بقي هو ذاته، بأفكاره، ومستوى خبراته، ونمط عمله، الأمر الذي جعل التجربة الفلسطينية تدور في دائرة مغلقة، تفتقد حقاً الحيوية والأهلية والتجديد والإبداع. وهكذا، فإن حركة «فتح»، التي بادرت إلى إطلاق الكفاح المسلح، وطبعت التجربة الفلسطينية بطابعها، عقدت خلال نصف قرن ستة مؤتمرات فقط، وظلت قيادتها تجدد لنفسها، طوال تلك الفترة، على رغم الإضافات الناجمة عن غياب بعض قيادييها الذين استشهدوا، او بسبب الوفاة الطبيعية. وعلى صعيد الفكر السياسي، مثلاً، تم فرض «البرنامج المرحلي» في اجتماع المجلس الوطني (1974)، أي من دون تمريره في مؤتمر للحركة، إذ إن المؤتمر الرابع لـ «فتح»، الذي عقد بعد سبعة أعوام (1981)، لم يقر هذا البرنامج، وظل على برنامج التحرير. وهذا تكرر في فرض اتفاق أوسلو، في اجتماع المجلس المركزي للمنظمة، وليس في اجتماع للمجلس الوطني، ولا في مؤتمر «فتح»، إذ إن أول مؤتمر لهذه الحركة تم عقده في عام 2009، في بيت لحم، أي بعد 16 عاماً على قيام السلطة! أما المجلس الوطني الفلسطيني، الذي يتم تعيين أعضائه وفق نظام المحاصصة الفصائلية («الكوتا»)، الذي تتحكم به «فتح»، فقد انتفخت عضويته من حوالي المئة إلى قرابة ثلاثمئة في الثمانينات، ثم أضحى عدد أعضائه حوالى 700 في آخر اجتماع مجلس وطني في غزة (الدورة 21 لعام 1996). ويجدر بالذكر أن هذا هو الاجتماع اليتيم للمجلس، بعد إقامة السلطة (1993)، منذ دورة الجزائر (العشرين لعام 1991)، أي أنه منذ قرابة ربع قرن، لم تعقد سوى جلسة واحدة لهذا المجلس. ويستنتج من ذلك أن المسألة لا تتوقف على تجديد عضوية المجلس وشبابه، وإنما تتعلق بتعطيل الهيئة التشريعية الأساسية للفلسطينيين والتي يفترض بها تحديد خياراتهم السياسية وإدارة كفاحهم. اللافت أن هذه الدورة عقدت أساساً استجابة للطلب الأميركي بتعديل «الميثاق الوطني»، وهذا حصل بغالبية 504 أصوات ومعارضة 54 صوتاً فقط وامتناع 12 عن التصويت، الأمر الذي يطرح التساؤل حول شرعية هذه الهيئة أو معنى العضوية فيها. ((http://www.wafainfo.ps/atemplate.aspx?id=3793 وفي ما بعد تم إقرار التعديلات بغطاء ما سمي «المؤتمر الشعبي الفلسطيني» (غزة أواخر 2008)، الذي عقد على عجل لهذا الغرض، بحضور الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، وبالتصويت برفع الأيدي. (http://www.palestine-studies.org/sites/default/files/mdf-articles/5925.pdf) هذا الأمر يشمل كيان السلطة، ذلك أن الانتخابات التشريعية والرئاسية لم تحصل سوى مرتين، في عقدين (1996 و2005 ـ2006)، ناهيك أن هذه المؤسسة معطلة، وليس لها أي فعالية، ليس بحكم الانقسام الفلسطيني فقط، وإنما بحكم طريقة عمل الرئيس أيضاً. ما يلفت الانتباه، تبعاَ لهذه الوضعية، أن ثمة أجيالاً جديدة من الشباب الفلسطيني لم تعد تجد نفسها سياسيا في إطار الكيانية الفلسطينية، في المنظمة والسلطة والفصائل، كونها لم تستطع تمثيلها على نحو صحيح، ولاختلاف مفاهيمها وأولوياتها واهتماماتها، ولأنها لم تنشأ على هذه التجربة. ويأتي بين أسباب ذلك ترهل المؤسسات وغياب الرؤية السياسة المقنعة والملهمة، واحتكار القيادة، وسيادة البيروقراطية، والافتقاد إلى الديموقراطية. ولعل ذلك يبدو أكثر وضوحاً في مجتمع الفلسطينيين في لبنان حيث لا توجد مؤسسات أو إطارات حقيقية تشتغل على التنمية السياسية والثقافية للشباب في المخيمات، لاستثمار طاقاتهم، علماً أن هؤلاء دفعوا باهظاً ثمن وجود الثورة الفلسطينية المسلحة وثمن خروجها من لبنان. هذا يشمل الفلسطينيين في مخيمات اللاجئين في سورية والأردن أيضاً، كما تجمعات الفلسطينيين في بلدان مثل السويد والدنمارك والنروج وبريطانيا وغيرها. بل يمكن القول أكثر من ذلك، إذ أن هؤلاء بات يتنامى لديهم الشعور بأن منظمة التحرير تخلت عنهم، وأنهم لم يعودوا يعنون لها شيئاً، بسبب تركيزها على المفاوضات وإقامة كيان السلطة في الضفة وغزة. وبديهي أن الأحوال في الضفة وغزة ليست أفضل على رغم وجود سلطة فلسطينية، بسبب انحسار السياسة، أو احتكارها من قبل فصيل معين، وأيضاً بسبب سيادة نظرة سلبية للسلطة، وبحكم تسيد القيادات كطبقة بيروقراطية مهيمنة وذات امتيازات. هكذا نحن إزاء قطاعات متزايدة من الشباب لا صلة لها بالتجربة الفلسطينية المعاصرة، إذ أن معظم الشباب ولدوا بعد انتهاء الثورة المسلحة في الخارج (1982)، مع ملاحظة أننا هنا نتحدث عن شباب في العقد الرابع من العمر، وإذا قصدنا الجيل الذي نشأ بعد اتفاق أوسلو (1993) فسنجد أنفسنا إزاء شباب في العقد الثالث من العمر، وهو العمر الذي بدأت به الطبقة السياسية السائدة تصدّرها للمشهد! ينجم عن كل ذلك أن الحركة الوطنية الفلسطينية، أو ما تبقى منها، تتجه نحو الأفول، أو نحو نهاية طريقها كبنية اجتماعية، أو كظاهرة سياسية، وحتى من الناحية الشرعية، كما سبق وذكرت، بسبب الفجوة بينها وبين قطاعات الشباب في مجتمع فلسطيني يعرف بفتوته، وبسبب عجزها عن تجديد شبابها من الناحيتين الفكرية والتنظيمية، بحكم العوائق التي تحول دون تمثل هذه القطاعات في إطاراتها، مع تسيّد طبقة الكهول وتشبثها بمكانتها. الآن، لا أحد يعرف كيف تفكر القيادة الفلسطينية بخصوص مستقبلها، أو في شأن مآلات الوضع الفلسطيني، ولا ما إذا كانت تفكر بمسؤولية وجدية في هذا الإطار، وما هي إجابتها حول مستقبل الشرعيات الفلسطينية، مثلاً، رئاسة المنظمة، ورئاسة السلطة، ورئاسة المجلس الوطني، وغير ذلك من مؤسسات أو إطارات. المفارقة أن الرئيس أبو مازن كان في عهد سلفه أبو عمار (رحمه الله) من أشد منتقدي احتكار القيادة، وكان يأخذ على الرئيس الراحل أنه يجمع في شخصه بين رئاستي المنظمة والسلطة وقيادة «فتح»، ولطالما طالب بفصل رئاسة المنظمة عن رئاسة السلطة، وبتسمية نائب للرئيس، في حين انه في عهده تجاهل كل هذه الانتقادات والمطالبات. ما نطرحه هنا لا يمت بصلة إلى الأشخاص المعنيين وإنما هو يتعلق بصميم العمل السياسي، ومتطلبات السياسة والشرعية، فما الذي يمكن أن يحصل في حال شغر منصب الرئيس (رئيس المنظمة ورئيس السلطة)؟ وما الذي يمكن أن يحصل في حال شغر منصب رئيس المجلس الوطني؟ وماذا في شأن اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير؟ ولماذا لا يتم تجديد المجلس الوطني الفلسطيني، وتجديد شرعيته؟ القصد أن الفلسطينيين لا يمتلكون كل هذا «الترف» للعيش على الصدف، أو الاستهانة بمسائل هي على درجة عالية من الأهمية بالنسبة إلى مصير كياناتهم السياسية ووجودهم كشعب. * كاتب فلسطيني