×
محافظة المنطقة الشرقية

مستودعات تتحدى المنع في «قرطبة سيهات»

صورة الخبر

ما أحوجنا إلى رأي عام مستنير...؟ بقلم: مصطفى قطبي عندما يصاب الرأي العام بالجهل ينحرف عن سواء السبيل، ويسير باتجاه التعصب والتزمت اللذين يحرّمان على ضحيتهما الاعتراف بوجهة النظر الأخرى... وهذا بالطبع لا يؤخر فقط بمجيء الحقيقة بل يحول دون ظهورها، وكما هو معروف أنه لا توجد فضيلة بدون حقيقة، وبالتالي فإن جنوح الرأي العام نحو التعصب يجرده من الفضيلة والحقيقة بآن واحد، ويدفعه إلى النفاق الاجتماعي الذي يصدّ عن طلب الحق ونشدان الكمال... هذا النفاق الذي يؤثر الجبن على الشجاعة، والمداهنة على الصراحة، والهوان على الأنفة، والجمود على التطور، والتحايل على الاستقامة، والبلاهة على الفطنة، والخرافة على البحث، والاستسلام على النضال، والعنف على الإقناع، ومقارعة الحجة بمثلها والتكفير على الحوار، والتقوقع على الاختلاط، وتلاقح الأفكار والعي على البلاغة، والظلام على النور، الأمر الذي يفتح الطريق لكل رذائل الضعف والكذب والجمود ويجعل الناس ينتحلون لأنفسهم شخصيات مستعارة يستردون بها في السر ما يسلبه منهم الإذعان للرأي العام في الجهر. وهنا تكمن المأساة الأخلاقية والاجتماعية، فيتنازل الناس عن كثير من الرغبات والشهوات لا زهداً فيها ولا بدافع من خوف ديني أو ارتقاء فكري وروحي، بل بحافز الخوف الاجتماعي، الخوف من نقد المجتمع وقسوة حكمه وتقديره، ويقومون أيضاً بفضائل ومكارم لا حباً في القيام بها، ولا رغبةً في تمثّل معانيها، ولا بدافع إنساني أخلاقي، بل مكرهين على فعلها لكي يظفروا برضا الجماعة وحسن تقديرها لهم... فكم من فاسد يقدم الهدايا وينفق الأموال ليشتري بها شهادة حسن سلوك من الآخرين، وكم من زنديق يتظاهر بالإيمان ويقيم الشعائر ليصرف أنظار الناس عن زندقته وكفره وعهره، وكم من زانٍ يتشدّق بالعفة ويتباهى بغضّ البصر إذا ما رأى امرأة ليكسب ثقة الجماعة ومدحها، وكم من مدافع عن الدين والتراث وهو ألدّ خصومهما اتقاءً لعزلةٍ أو طمعاً بإطراء ليس له أهلاً وكم... وكم... فعندما يرفعُ الرأي العام الجاهل سوط نقمته ليهوي به على الخارجين عن طاعة تزمّته وجهالته، يفتحُ الطريق لكلّ رذائل النفاق والضعف والكذب والجمود، ويحاول الناس أن ينتحلوا لأنفسهم شخصيات مستعارة يحاكون بها الدارج في المجتمع، حتى إذا خلوا إلى أنفسهم عادوا إلى قناعاتهم وآرائهم التي غالباً ما تكون بعيدة كلّ البعد عن المظاهر التي يظهرون بها في المجتمع... وهذا بالطبع يحول دون ظهور الحقيقة التي لا توجد فضيلة بدونها، الأمر الذي يقودنا إلى الحديث عن الرأي العام المستنير البريء من الجهل والتزمت والذي يزن بكفتين، ويرى بعينين، ويسمع بأذنين، وينطقُ بلسان واحد، والرأي العام المظلم الذي يقوده الجهلُ والتزمت إلى الحماقات، فيبني أحكامه على المزاجية والتقلب في الرغبات والآراء، ويقيس صلاح الناس على مدى إذعانهم لهذه الأحكام، وهذا بالطبع يهيء المناخ ويُحضّر التربة لنمو الشرور والأخطاء والارتكابات التي تصبُّ جميعها في مستنقع الجريمة. من هنا نستطيع القول: إن الجهالة المزمنة تنفث في الرأي العام تزمّتاً ضارباً يميلُ به عن السلوك السوي الذي يجب أن يسلكه في المجتمع، وتجعله عاجزاً عن التسامح مع الخطأ، وقاسياً وعدوانياً في معالجته، وتتضح لنا خطورة الرأي العام المظلم في المجتمع، إذا عرفنا أنَّ النفس البشرية بطبيعتها تسمو فوق نزواتها كلما أحاطت بها اهتمامات الآخرين ومشاعرهم الودودة والمتسامحة والعطوفة، وتزداد عثراتها الخلقية كلما أحست أنها موضع استهجان وعدم مبالاة وتمضي في رذيلتها إلى آخر الشوط، وتشرب من كأس هذه الرذيلة حتى الثمالة يسوقها إلى ذلك شعار محبط: أنا الغريق فما خوفي من البلل. فكم من أناس كان من الممكن أن يرجعوا عن الشر وهم في بداية الطريق، لولا الحقد المتبادل بينهم وبين الرأي العام، الذي ينظرُ إليهم في بلاهةٍ وازدراء وقسوة، ويعالج أخطاءهم وأمراضهم بأمراضٍ وأخطاءٍ أشد خطورة وفتكاً. والرأي العام بهذا المعنى يقف على رأس البواعث الخلقية، والناس بكل أشكالها وأصنافها مضطرة في كثير من الأحيان إلى استحسان ما يستحسنه، واستهجان ما يستهجنه، وهذا ما يستدعي أن يكون على إدراك سليم للفضيلة الصحيحة والرذيلة الحقة، وأن يكون ميزاناً دقيقاً وصالحاً للسلوك، ولكي يكون كذلك لابدّ من أن يدرك مسائل الأخلاق إدراكاً واعياً ويبتعد عن المفاهيم الجاهلة والتقاليد غير المنطقية التي أملتها عليه رواسب الماضي ومخلفات الجهل، ولعل أخطر هذه الرواسب وأسوأ هذه المخلفات هو التعصب الذي لا يصيب رأياً إلا ويفسده، ولا مجتمعاً إلا ويفككه، ولا معتقداً إلا ويشوهه. وما أحوجنا هذه الأيام إلى رأي عام مستنير يتسامح ويعفو ويحضّ على الألفة والمحبة والوحدة، لا إلى رأي عام مظلم يحقد ويظلم ويبث الفرقة والبغضاء... وأخيراً وليس آخراً أتوجه بالسؤال إلى كل أبناء هذا المجتمع، أليسَ رأينا العام هو مرآة وعينا وثقافتنا وإيماننا؟ فإذا كنا ندّعي الثقافة والإيمان، علينا أن نسعى لتكوين رأي عام مستنير يهدم كلّ ما بنته قوى التخلف والشر عبر قرون مضت، ويفضح ظلامية الخارجين عن التاريخ وعن الوعي والفكر والإيمان والأخلاق.