قبل أيام قليلة أعلن الأكراد سيطرتهم على مدينة عين العرب (كوباني) بدعم أساسي من قوات التحالف ومشاركة قوات من البشمركة والمعارضة السورية ووحدات حماية الشعب الكردية بعد قتال استمر قرابة خمسة أشهر مع قوات تنظيم الدولة. رفع هذا "الانتصار" على تنظيم الدولة في المدينة التي كانت تسكنها أغلبية كردية في شمال شرق سوريا، سقف تطلعات الوحدات الكردية نحو تحويل التقدم العسكري إلى إنجاز سياسي على الأرض، وإقامة كيان مشابه لإقليم كردستان العراق. وكانت هذه الأفكار قد بدأت تتصاعد منذ تراخي قبضة النظام السوري بعد الثورة. لم ينتظر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كثيرا باعتبار تركيا المتأثر الأساسي أو المتضرر الأكبر حسب وصف بعض التقارير الصحفية، حتى أعاد على الملأ بشكل واضح رفض تركيا إقامة كيان كردي أو حكم ذاتي للأكراد في شمال سوريا على غرار كردستان العراق. وتخشى تركيا أن يعزز ما حصل النزعات الانفصالية لأكراد تركيا البالغ عددهم حوالي 15 مليون والذين تحركوا بقوة عندما داهم تنظيم الدولةمدينة عين العرب، وقد جاء ذلك بعد جهود مضنية قامت بها الحكومة التركية في عملية السلام مع الأكراد لإنهاء كل عوامل تفجر الصراع. " تخشى تركياأن يعزز ما حصل النزعة الانفصالية لأكراد تركيا البالغ عددهم حوالي 15 مليون والذين تحركوا بقوة عندما داهم تنظيم الدولة مدينة عين العرب (كوباني)، وقد جاء ذلك بعد جهود مضنية قامت بها الحكومة التركية لإنهاء الصراع القائم مع الأكراد " هنا تتبادر للأذهان صيغة التساؤل التالي وهو لماذا ترفض تركيا حكما ذاتيا للأكراد في شمال سوريا مع أنها قبلت ذلك في شمال العراق وأقامت معهم علاقات دبلوماسية واتفاقات اقتصادية وربما تعاونا أمنيا أيضا ظهر بعض منه في سماح تركيا لقوات من البشمركة بالدخول إلى عين العربعبر تركيا؟ ترى تركيا أن الواقع بين العراق وسوريا مختلف تماما، فإقليم كردستان العراق على خلاف مع حزب العمال الكردستاني الذي خاضت الحكومات التركية المتعاقبة عدة حروب معه منذ عام 1984، في حين يرتبط أكراد سوريا بتعاون مع حزب العمال الكردستاني. أما الأمر الآخر الذي يرفع درجات الإنذار بشكل أكبر لدى تركيا فهو التدخل الغربي في المنطقة, الذي يعمل على تغيير الأوضاع لصالح الأكراد. وقد كانت تركيا ترى استحالة أن يقوم الأكراد في سوريا بإنشاء دولة، وذلك لأسباب عدة منها: 1- أن الوضع جغرافيا لا يساعد الأكراد بسبب وجود فواصل جغرافية بين أماكن وجودهم الرئيسية بين محافظة الحسكة (قامشلو وسري كانيه) مع مدن تابعة للرقة (كوباني) ومحافظة حلب (عفرين)، حيث تنقطع المناطق الكردية عن بعضها لمسافة 40 كلم تقريبا. كما أن الشكل الشريطي المفترض للكيان يجعله مفتقدا للعمق بكل أبعاده. 2- وجود جيوب عربية بين هذه المناطق وحتى في داخل هذه المناطق تبلغ نسبة العرب في بعضها 40%. 3- أن أكراد سوريا مشتتون وليست لديهم رؤية سياسية موحدة، وتوجد قوى كردية في داخل الائتلاف السوري ترفض فكرة الانفصال. 4- الوجود العسكري المشترك للجيش الحر والأكراد في بعض المناطق. كما أن الوجود الحالي لتنظيم الدولة الإسلامية في بعض المناطق المحيطة بالأكراد يقلل الفرص الكردية. 5- لا توجد قدرة اقتصادية لدى أكراد سوريا لإدارة أماكنهم, كما أن عملية التصدير ستكون محكومة بالدول المجاورة ومنها تركيا. 6- معظم المياه السطحية تأتي من تركيا، ويعني هذا تحكم تركيا في الأمن المائي للمنطقة. ولكن التركيز الشديد للغرب على منطقة عين العرب (كوباني) بعد رفض الأتراك المشاركة المباشرة في التحالف أثار انتباه الأتراك, وكذلك قيام الطائرات الأميركية بإلقاء أسلحة للمقاتلين الأكراد الذين تضعهم أنقرة على قائمة الإرهاب، دق نواقيس الخطر لدى تركيا التي سمحت مباشرة لقوات من البشمركة والجيش الحر (لإضفاء البعد العربي السوري) بالدخول للمدينة. وقد استمر القادة الأتراك في انتقاد التحالف الذي ركز على وجود تنظيم الدولة في كوباني والذي أدى لتهجير 200 ألف نسمة، في وقت لم يقم بمهاجمة الأسد الذي قتل عشرات الآلاف وأدى لتهجير أكثر من مليون ونصف المليون من مدن مثل حلب وجوارها. وترى تركيا ضرورة الجمع بين مواجهة تنظيم الدولة ونظام الأسد، وإنْ كانت ترجح أولوية مواجهة الأخير وترى أن قيام كيان كردي يخدمه بالدرجة الأولى ويصب باتجاه تقسيم سوريا وهو الشيء الذي لا تريده. ما زالت تركيا ترى صعوبة قيام كيان للأكراد في شمال سوريا إلا أنها رفعت درجات التحسب لهذا الأمر أكثر من ذي قبل بسبب تراجع تنظيم الدولة في بعض الأماكن ورغبة الأكراد في مزيد من الانتصارات عليه بالتعاون مع التحالف، ووجود جهود حثيثة لتوحيد جهود أكراد سوريا وبتدخل من أكراد العراق. ولكن إذاتزايدت مؤشرات الخطورة بقيام كيان كردي شمال سوريا فإن تركيا ستعمل على تكريس ما يلي: 1- دعم المعارضة السورية والجيش الحر، كمزيد من معارضة مشروع الإدارة الذاتية للأكراد ومزيد من الاهتمام بمناطق شمال سوريا وتعزيز الوجود العسكري هناك. وقد حصلت بعد جهد على موافقة من الأميركيين على تدريب قوات المعارضة السورية. 2- حث إقليم كردستان العراق على اتخاذ مزيد من المواقف المضادة لحزب العمال الكردستاني. " حاول النظام السوريبعد الثورة استمالة بعض قوى الأكراد في مواجهة تركيا وقوى الثورة،مما يعني أنالأمر في سوريا وشمالها تحديدايدور في طاحونة صراع الإرادات الإقليمية والدولية بين تركيا والغرب والأكراد والنظام السوري ومن يقف خلفه " 3- تعاملت تركيا مع قتال تنظيم الدولة وحزب العمال في عين العرب ضمن منطق "دع الأعداء يتقاتلون" ولكن تزايد نزعات الانفصال الكردي قد يجعلها تتجه للتعامل بمنطق "عدو عدوي صديقي" لكن هذا أيضا له اعتباراته وقيوده، وفي هذا السياق عانت تركيا مؤخرا من حملة تشويهية تتهمها بدعم وتمويل الإرهاب في سوريا والعراق. 4- ستعمل تركيا على التوصل لإنجازات في عملية السلام الداخلية مع الأكراد خاصة أن حزب العدالة مقبل على انتخابات برلمانية في يونيو/حزيران القادم, ولكنها ستعمل من خلال صيغ لا يفهم منها أنها تنازلات الضعيف خشيةنتائج عكسية. تحاول تركيا فرض رؤيتها للحل في سوريا والتي تضرب من خلالها كل العصافير بإقامة منطقة حظر جوي ومنطقة آمنة للاجئين السوريين داخل الشريط السوري، وهو ما من شأنه أن يقضي على فكرة الكيان الكردي، ولكن هذا يواجه برفض غربي، وهو ما قد يشير بوضوح إلى أن الغرب يدعم قيام دولة كردية شمال سوريا من خلال الاعتراف الضمني بالمقاتلين الأكراد الذين يساندونه في قتال تنظيم الدولة، كما يذكر محللون أن إسرائيل ترغب بهذا أيضا. يبقى الحديث عن تدخل عسكري تركي مباشر ضد النزعات الانفصالية للأكراد مستبعدا في هذه الفترة، لكن المؤكد أن تركيا لن تترك الساحة فارغة وستعمل حاليا على خلط الأوراق أمام أي تحركات كردية. وأمام هذه التوجسات الكردية يميل عدد من القوى الكردية إلى عدم إثارة حفيظة تركيا من خلال التأكيد على أنهم لا يريدون إقامة كيان كردي، وأنهم جزء من الدولة السورية، وأن الحديث عن الكيان الكردي هو من قبيل الرهاب السياسي، وأن الأولوية هي لقتال ومواجهة دكتاتورية وطغيان نظام الأسد. وقد وجه عدد من الأكراد الشكر لتركيا لدورها في إيواء اللاجئين القادمين من كوباني وتسهيل دخول البشمركة، لكن أصواتا أخرى تعالت برفض التدخل التركي في مستقبل الأكراد في سوريا باعتبار أنهم وحدهم من يحق لهم تقرير مصيرهم. لا يغيب عنا هنا أيضا أن نشير إلى دور النظام السوري الذي حاول بعد الثورة استمالة بعض قوى الأكراد في مواجهة تركيا وقوى الثورة مما يجعل الأمر في سوريا وشمالها تحديدا دائرا في طاحونة صراع الإرادات الإقليمية والدولية بين تركيا والغرب والأكراد والنظام السوري ومن يقف خلفه. لكن الأمر المؤكد في الخطاب التركي أن إقامة كيان كردي شمال سوريا هو خط أحمر، وكلما تزايد الحديث عن هذا الأمر فإن المنطقة مرشحة لمزيد من السخونة والتصعيد.