تتوالى إرهاصات البلدان العربية، ولا تبدو الولادة قريبة، وربما جاء المولود وماتت الأم، وربما مات الوليد والأم معاً. هكذا تنتقل سلسلة الآلام العربية على غير هدى، فلا قضايا مفهومة ومعقولة، تقود الانتقال المؤلم، ولا تدخّل قوى اجتماعية عاقلة لمصالحها، يضع حاجزاً وازناً وكابحاً أمام عربة الخراب المتنقلة. غاب زمن العناوين التي مثلت رداً على واقع حال عربي، متناسب مع ما تعرضت له الدواخل العربية، مجتمعة ومتفرقة. كان زمن السلطنة العثمانية ونظريات التتريك والحركة الطورانية، وكانت مقدمات الإصلاح ومحاولات التنوير وبواكير الفكر القومي العربي، ردوداً ملائمة عليها. وجاء الاستعمار الفرنسي والبريطاني بعد الحرب العالمية الأولى، وكانت الحركات الاستقلالية الوطنية والنظريات الاشتراكية والقومية، دليلاً سياسياً عملياً مرشداً لكل الذين أعلنوا العداء للاستعمار، واحتُلت فلسطين فازدهرت أفكار التحرير والكفاح المسلح والبناء الاشتراكي والأنظمة التقدمية. استعراض ما كان، ليس للقول إن فردوساً عربياً كان مشيَّداً فطرد منه العرب، بل للإشارة إلى أن تحديد الأهداف كان واضحاً، والخطط العملانية غير ملتبسة، والشعارات تنطق باسم المصالح الاجتماعية والسياسية التي تنطوي عليها الأهداف، والأحزاب التي تشكلت، أعلنت نواياها وعزمها على الوصول إلى السلطة، لتنفيذ برامجها الاجتماعية والسياسية، التي رأت فيها خلاصاً خاصاً وعاماً، لمجموع الشعوب العربية. كان الخصم واضحاً، والصديق معروفاً، والتحالفات والخصومات السياسية منتظمة في «صف منطقي طويل»، ظاهر أوله وغير عصي على التعريف منتهاه. وبعيداً من نظرية المؤامرة، تحتشد وقائع كثيرة لتدفع إلى الريبة في المسلك الدولي الخارجي، في تعامله مع المنطقة العربية ككل، ومع كل بلد عربي بمفرده. وللريبة أصل حديث، وللشكوك بارحة سياسية قريبة، وللاتهام عناصره التي ما زالت تتوالى على مسرح الأحداث اليومية. من الأمس القريب، جرى تلفيق تهمة سلاح دمار شامل للعراق، ثم دمر البلد تدميراً عاماً. وفي ملف المنطقة التي يحتل العراق قلبها، أعلنت الولايات المتحدة الأميركية، زعيمة «إزالة التهديدات» الكارثية، عن سياسة الاحتواء المزدوج، للبلدين المتنازعين، إيران والعراق، لكنها سلكت مسلكاً أحادياً فاضحاً، أزال العراق عن خارطة السياسة، ومهد لإيران لتثبّت أقدامها في العراق، وفي دنيا العرب الواسعة. على صعيد التاريخ، مصدر القلاقل والحروب الدائمة، القديم، اغتصاب فلسطين الذي رعاه الغرب، وتحميه اليوم أميركا، وسبب الزلازل الحالي وانبعاثاته، تقف وراءه «بلاد الحرية» وتواكب تطوراته، وتكذب عندما تقدم خلاصاتها عن احتمالاته، وعن سبل مواجهته. المسلك الإقليمي، لا يترك مجالاً واسعاً للظن بالدول المعنية به. فهذه تتحرك تحت سقف سماح دولي عام، وتقرأ في مطارح التجاوز الممكن عليه، وتعمد إلى تنفيذ سياساتها الخاصة، بوسائل استهداف الاستقرار الداخلي للبلاد العربية، وبالتلاعب بخيوط نسيجه الاجتماعي، الهش منها والمتين. تتشارك دول الإقليم نهب الاستقرار والموارد والتعدي على المصالح العربية، مع دول النهب العالمية الكبرى، وتصدر إلى جوارها أزماتها ومخاطرها وثوراتها لتؤسس لمعادلة: الاستقرار – الخراب، ولا يخفى من هما طرفا المعادلة في حالتنا الراهنة. جارة العرب، تركيا، انتقلت من سياسة صفر مشكلات، التي تبناها رئيس وزرائها الحالي، داوود أوغلو، إلى عملانية الانخراط في كل المشكلات، والمساهمة في توليدها وفي إدارتها، حتى تشب ويقوى عودها. وجود القيادة التركية الحالية، مع تفسيراتها الإسلامية، يشكل مصدر دعم لقوى «الفتاوى الإسلامية»، وقاعدة خلفية لها، وينظر إليها بعض «قادة الفتاوى» كنصير ومجير، وبذلك ينعقد الخروج على أحكام الوطنيات الداخلية بين خارج طامح، وبعض داخل محلّق فوق داخله، استناداً إلى نظرية شمولية، يقوم فيها «الإفتاء» مقام النظريات الاشتراكية والقومية السابقة والواقع أيضاً. تشكل إيران الدولة الثانية المتدخلة بحماسة عالية في شؤون المنطقة العربية، وإذا كان التدخل التركي «ناعماً»، فإن التدخل الإيراني بادي «الخشونة». بلغة السياسة، يحتل الدخول الإيراني على خطوط تقاسم النفوذ في الديار العربية، المنطقة الأكثر خطورة، ويعمد أصحابه إلى الأساليب الأكثر ضرراً على مجمل البنى التي يتحركون في ميادينها. وإذ تسقط السياسة الجادة كلام المساندة للشعوب، أو التصدي للاستكبار، أو رفض الأحادية القطبية، فإن النظر يروح صوب قراءة السياسات بما هي عليه، لا كما يشرحها أصحابها، شرحاً تضليلياً أخلاقياً متعالياً عن المصالح! لقد بات الوضع العربي راهناً مأسوراً ضمن مثلث سياسي متضامن موضوعياً، مفترق كلامياً. هذا المثلث ضلعه الأول «التتريك»، وضلعه الثاني «التفريس»، وقاعدته المتينة «الأسرلة»، والكلام دائماً بلغة السياسة، وتوزيع المغانم، وليس بلغة تعميم الثقافة أو اللهجة أو التمييز بين الأعراق، إذ لن يغيب عن التحليل والفهم والإدراك، أن إسرائيل هي العدو الدائم، وأن إيران وتركيا تنزلان الآن منزلة الخصم السياسي، الذي لا يقلل وصفه بالخصومة، فداحة ما تتسبب به خصومته من أخطار. ليس حديث مؤامرة، لأن الداخل العربي وبناه هي طرف الخراب الآخر، وليس حديث وصف واقع حال، بل هو دعوة لمواجهة هذا الوضع الخطير، بما يناسبه من اجتهادات قومية ووطنية. حقاً، أين مسألة العروبة؟ أين مسألة الوطنية والاستقلالية؟ وأين قوى التغيير التي تواجه الماضي المنفلت، بخطاب وقوى المستقبل؟!