بكل هدوء.. لملم بقية أوراقه وبقايا أدوية يكافح بها ارتفاع السكر ويزن بها نسبة الضغط! وخرج بجسده الذي أنهكه العمل الدؤوب والدائم، تاركاً آثار خطوات لأربعة عقود وسيرة عطرة.. وجميلا لكل شخص تعامل معه. ترجل الفارس صاحب القلب الكبير والفكر المنير، أغلقت المدرسة أبوابها بعد أربعين عامًا من العطاء، تتلمذ على يديه أجيال تلو أجيال، وتعلم القادة كيف يكون المسؤول الصارم والأخ الأكبر والمهني البارع والزميل البسيط، نعم تجمعت كل هذه الصفات في رجل قل أن تجتمع في آخر. كُنا نشعر بالأمان إذا كان موجوداً، ونلجأ إليه إذا تشعبت ضغوط العمل وتنوعت المصادر وتعددت الخيارات، فكان المرشد لما هو مفروض أن تفعله بجملة لا تتجاوز أربع كلمات، تعود بعدها وقد استرقت معلومة من منهل خصب كانت غائبة عنك، أو أنك أساساً لا تعرفها. الموظف الوحيد الذي لا تدري متى يبدأ دوامه ومتى ينتهي، فتراه في كل مكان يسأل هذا ويوجه آخر. كان يغضب أحياناً لغلطة اقترفها موظف، ولكن أشهد الله والتاريخ أنه الرجل الوحيد الذي قابلته طيلة حياتي العملية الذي «يعاتبك بخجل»! وينتقدك بأدب، نعم يعاتبك بخجل وأنت المذنب وهو المسؤول صاحب القرار، فهل مر عليكم مثله؟! يعاملك بـ ابوّة، ويغمرك بعطف، ويشعرك أنك جزء من هذا الكيان، وليس موظفا أجيرا وصفرا على الشمال، يعلمك كيف تتقدم إلى الأمام وتترك أثرا يقتفيك عليه الآخر. «أبشر بالخير» هي الكبسولة السحرية التي يمتص بها غضبك ويطيب بها خاطرك، وتخرج من مكتبه راضياً حتى ولو لم يتحقق ما تريد، «أبشر بالخير» كلمتان حل بها آلاف المشاكل وأوقف بها العديد من الإجراءات التي قد تتخذها في لحظة غضب. صاحب مواقف صادقة، ولديه قدرة عجيبة في استحلاب الأفكار واكتشاف المواهب، فكم من زميل بدأ متواضعاً ورأى فيه الصحفي الموهوب وحافظ عليه، وهُم الآن يشغلون وظائف قيادية وأصحاب أقلام راقية. باختصار.. تعلمت من والدي وأستاذي نائب رئيس التحرير «عتيق الخماس» أن العمل أمانة، والمعاملة صنعة، والزميل أخ، والصحافة متعة، والنقل أمانة، والحذر واجب، وأن الخير قادم لي ولزملائي ولداري «دار اليوم للإعلام».. والله المستعان.